كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار أبي صدقة

صفحة 196 - الجزء 19

  فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، وقال له: هاكها قد رددتها عليك وزدتك فرج أمّ صدقة فطلَّقها إن شئت واحدة، وإن شئت ألفا. وإن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد ابن الباردة عمرو الغزّال⁣(⁣١)، وكانت صلته ألف دينار. فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم ردّ عليه الخمسمائة الدينار، وأمر له بألف دينار معها. وكان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات، فانصرف يومئذ بألف وخمسمائة دينار.

  عبث جعفر بن يحيى والرشيد به

  أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدّثني يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو إسحاق، قال:

  / مطرنا ونحن مع الرشيد بالرّقة مطرا مع الفجر، واتصل إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد، وأنه مقيم عند أمّ ولده المسماة بسحر، فتشاغلنا في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد، فحضرنا جميعا، وأقبل يسأل واحدا واحدا عن يومه الماضي: ما صنع فيه فيخبره، إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره، فقال: كان عندي أبو زكَّار الأعمى وأبو صدقة، فكان أبو زكار كلما غنّى صوتا لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة، فإذا انتهى الدور إليه أعاده، وحكى أبا زكار فيه وفي شمائله وحركاته، ويفطن أبو زكار لذلك فيجن ويموت غيظا، ويشتم أبا صدقة كلّ شتم حتى يضجر، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به، وأنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب وسئمنا من العبث به، فقلت له: دع هذا وغنّ غناءك، فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، طربت له - واللَّه يا أمير المؤمنين - طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين، وهو:

  صوت

  فتنتني بفاحم اللون جعد ... وبثغر كأنه نظم درّ

  وبوجه كأنه طلعة البد ... ر وعين في طرفها نفث سحر

  فقلت له: أحسنت واللَّه يا أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: إني قد بنيت دارا حتى أنفقت⁣(⁣٢) عليها حريبتي⁣(⁣٣)، وما أعددت لها فرشا، فافرشها لي، نجّد⁣(⁣٤) اللَّه لك في الجنة ألف قصر. فتغافلت عنه، وعاود الغناء، فتعمدت أن قلت له: أحسنت، ليعاود مسألتي وأتغافل عنه، فسألني وتغافلت، فقال لي: يا سيدي هذا التغافل متى حدث لك؟ / سألتك باللَّه، وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم! فأقبلت عليه وقلت له: أنت واللَّه بغيض، اسكت يا بغيض، واكفف عن هذه المسألة الملحّة، فوثب من بين يديّ، وظننت أنه خرج لحاجة، وإذا هو قد نزع ثيابه وتجرد منها خوفا من أن تبتلّ، ووقف تحت السماء، لا يواريه منها شيء والمطر يأخذه، ورفع رأسه وقال: يا ربّ أنت تعلم أني مله، ولست نائحا، وعبدك هذا الَّذي رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي: أحسنت، لا يقول لي: أسأت، وأنا منذ جلست أقول له: بنيت، لم أقل: هدمت، فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض، فاحكم بيني وبينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين.


(١) ف: «عمرو بن الغزال».

(٢) ف: «دارا أنفقت».

(٣) حريبة الرجل: ماله الَّذي سلبه.

(٤) نجّد: زين.