أخبار أبي صدقة
  فغلبني الضحك، وأمرت به فتنحّى، وجهدت به أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أنى أفرش له داره، وخدعته فلم أسمّ له ما أفرشها به، فقال الرشيد: طيّب واللَّه! الآن تمّ لنا به اللهو، وهو ذا أدعو به، فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي، فهو يتنجّز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له، فقل له: أنا أفرشها لك بالبواري(١)، وحاكمه إليّ. ثم دعا به فأحضر، فما استقرّ في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحيى: الفرش الَّذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري، تقدّم فيه، فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبواري، وإن شئت بالبرديّ من الحصر، فضج واضطرب.
  فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسمّ النوع ولا حدّدت القيمة، فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبرديّ أو بما دون ذلك فقد وفي يمينه، وإنما خدعك، ولم تفطن له أنت، ولا توثقت، وضيّعت حقك. فسكت، / وقال: نوفّر البرديّ والبواريّ عليه أيضا، أعزه اللَّه. وغنى المغنون حتى انتهى إليه الدور، فأخذ يغني غناء الملَّاحين والبنائين والسقائين وما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: أيش هذا الغناء ويلك! قال: من فرشت داره بالبواري والبردي فهذا الغناء كثير منه، وكثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد واللَّه وطرب وصفّق، ثم أمر له بألف دينار من ماله وقال له: افرش دارك من هذه، فقال: وحياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني، وإلَّا متّ واللَّه أسفا لفوات ما حصل في طمعي ووعدت به، فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار، فقبلها جعفر، وأمر له بها.
  قصة وصوله إلى السلطان
  أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أنّ أبي لما حجّ مرّ بالمدينة، فاحتاج إلى قطع ثياب، فالتمس خياطا حاذقا، فدلّ على أبي صدقة، ووصف به بالحذق في الخياطة والحذق في الغناء وخفة الروح، فأحضره فقطع له ما أراد وخاطه، وسمع غناءه فأعجبه؛ وسأله عن حاله، فشكا إليه الفقر، فخلَّف لعياله نفقة سابغة لسنة، ثم أخذه معه وخلطه بالسلطان.
  قال(٢) حماد: فقال أبو صدقة يوما لأبي: قد اقتصرت بي(٣) على صنعة أبي إسحاق أبيك، | عندي، وأنت لا، ربّ(٤) ذلك بشيء، فقال له: هذه الصينيّة الفضة الَّتي بين يديّ لك إذا انصرفت، فشكره وسرّ بذلك، ولم يزل يغنيه بقية يومه، فلما أخذ النبيذ فيه قام قومة ليبول، فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنّينته وقدحه فيها، ورفع الصينية الفضة، فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل، ودفعها إلى غلامه، وقال له: بت الليلة عندي واصطبح غدا، واردد دابتك. فقال: إني إذا / لأحمق، أدفع إلى غلامي صينية فضة، فيأخذها ويطمع فيها أو يبيعها، ويركب الدابة ويهرب، ولكني أبيت عندك، فإذا انصرفت غدا أخذتها معي، وبات وأصبح عندنا مصطبحا، فلما كان وقت انصرافه أخذها ومضى، فلم يلبث من غد أن جاءنا والصينية معه، فإذا هو قد وجّه بها لتباع، فعرّفوه أنها رصاص، فلما رآه أبي من بعيد ضحك، وعرف القصة، وتماسك، فقال له أبو صدقة: نعم الخلافة خلفت
(١) البواري: جمع البارية، وهي الحصير المنسوج.
(٢) الفقرة الَّتي أولها: قال حماد إلى آخر الترجمة زيادة في س على ما في ف.
(٣) في س: «به»، وهو تحريف.
(٤) رب ذلك: زدت.