كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار علي بن جبلة

صفحة 229 - الجزء 20

  زرت أبا دلف، فكنت لا أدخل إليه إلَّا تلقاني ببرّه وأفرط، فلما أكثر قعدت عنه حياء منه، فبعث إليّ بمعقل أخيه، فأتاني فقال لي: يقول لك الأمير: لم هجرتنا؟ لعلك استبطأت بعض ما كان منّي، فإن كان الأمر كذلك فإني زائد فيما كنت أفعله حتى ترضى، فدعوت من كتب لي، وأمللت عليه هذه الأبيات، ثم دفعتها إلى معقل، وسألته أن يوصلها، وهي:

  هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر

  ولكنني لما أتيتك زائرا ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكر

  فهأنا لا آتيك إلا مسلَّما ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر

  فإن زدتني برّا تزايدت⁣(⁣١) جفوة ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشر

  قال: فلما سمعها معقل استحسنها جدا، وقال: جوّدت واللَّه، أما أن الأمير ليعجب / بمثل هذه الأبيات، فلما أوصلها إلى أبي دلف قال: للَّه درّه! ما أشعره، وما⁣(⁣٢) أرقّ معانيه! ثم دعا بدواة، فكتب إليّ:

  /

  ألا ربّ ضيف طارق قد بسطته ... وآنستة قبل الضيافة بالبشر

  أتاني يرجّيني فما حال دونه ... ودون القرى من نائلي عنده ستري

  وجدت له فضلا عليّ بقصده ... إليّ وبرّا يستحق به شكري

  فلم أعد أن أدنيته وابتدأته ... ببشر وإكرام وبرّ على برّ

  وزوّدته مالا قليل⁣(⁣٣) بقاؤه ... وزوّدني مدحا يدوم على الدهر

  ثم وجّه بهذه الأبيات مع وصيف يحمل كيسا فيه ألف دينار، فذلك حيث قلت له:

  إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره

  يقصد عبد اللَّه بن طاهر ليمدحه، فيرده لغلوه في مدح أبي دلف:

  أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني أحمد بن القاسم قال: حدّثني نادر مولانا:

  أن عليّ بن جبلة خرج إلى عبد اللَّه بن طاهر وإلى خراسان، وقد امتدحه، فلما وصل إليه قال له: ألست القائل:

  إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره

  فإذا ولَّى أبو دلف ... ولَّت الدنيا على أثره

  قال: بلى، قال: فما الَّذي جاء بك إلينا، وعدل بك عن الدنيا الَّتي زعمت؟ / ارجع من حيث جئت، فارتحل، ومرّ بأبي دلف وأعلمه الخبر، فأعطاه حتى أرضاه. قال نادر: فرأيته عند مولاي القاسم بن يوسف، وقد سأله عن خبره فقال:

  أبو دلف إن تلقه ماجدا ... جوادا كريما راجح الحلم سيدا


(١) كذا في س. في أ، ب، ج: «تزيدت».

(٢) في ب، س ب: «ما أشعره وأرق». وفي أ، ج: «ما أشعره وأدق».

(٣) ف، مم، مو: «قليلا» بالنصب، وكلاهما صحيح.