كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة

صفحة 46 - الجزء 21

  أنّها ملَّته بعد ذلك، فهربت منه، فكانت تغنّي عند أقوام عرفتهم ببغداد، وهي متستّرة متخفيّة، فلمّا كان يوم من الأيّام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغنّي، فسمع غناءها، فعرفه، فبعث إلى عمه من وقته، وأقام هو بمكانه، فلم يبرح حتى جاء عمّه، فلبّبها⁣(⁣١) وأخذها، فضربها مائة مقرعة، وهي تصيح: يا هذا لم تقتلني! أنا لست أصبر عليك، أنا امرأة حرّة إن كنت مملوكة فبعني، لست أصبر على الضّيقة، / فلما كان من غد ندم على فعله، وصار إليها فقبّل رأسها ورجلها، ووهب لها عشرة آلاف درهم، ثم بلغ محمّدا الأمين خبرها، فأخذها منه، قال: وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه، فطلبها منه، فلم يجبه إلى ما سأل، وقبل ذلك ما كان طلب منه خادما عنده، فاضطغن لذلك عليه، فلما ولي الخلافة جاء المراكبيّ، ومحمد راكب، ليقبّل يده، فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشّاكريّ، فضربه المراكبيّ وقال له: أتمنعني من يد سيّدي أن أقبّلها؟ فجاء الشّاكريّ لمّا نزل محمد فشكاه، فدعا محمد بالمراكبيّ، وأمر بضرب عنقه، فسئل في أمره، فأعفاه، وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع، وبعث، فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له، فلما قتل محمّد هربت إلى المراكبيّ، فكانت عنده، قال: وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عديّ الذي كانت عنده لمّا هربت إليه، ثم ملَّته فهربت منه، وهي أبيات عدّة، هذان منها:

  ورشّوا على وجهي من الماء واندبوا ... قتيل عريب لا قتيل حروب

  فليتك إن عجّلتني فقتلتني ... تكونين من بعد الممات نصيبي

  / قال ابن المعتزّ: وأمّا رواية إسماعيل بن الحسين، خال المعتصم فإنها تخالف هذا، وذكر أنّها إنما هربت من دار مولاها المراكبيّ إلى محمد بن حامد الخاقانيّ المعروف بالخشن، أحد قوّاد خراسان قال: وكان أشقر أصهب الشعر أزرق، وفيه تقول عريب - ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس -:

  بأبي كلّ أزرق ... أصهب اللون أشقر⁣(⁣٢)

  جنّ قلبي به ول ... يس جنوني بمنكر

  تذكر ناسيا

  : قال ابن المعتزّ: وحدثني ابن المدبّر قال:

  خرجت مع المأمون إلى أرض الروم، أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق، فكنا نسير مع العسكر، فلما خرجنا من الرّقّة رأينا جماعة من الحرم في العماريّات على الجمّازات⁣(⁣٣) وكنّا رفقة، وكنّا أترابا، فقال لي أحدهم:

  على بعض هذه الجمّازات عريب، فقلت: من يراهنني أمرّ في جنبات هذه العماريّات، وأنشد أبيات عيسى ابن زينب؟.

  قاتل اللَّه عريبا ... فعلت فعلا عجيبا

  فراهتني بعضهم وعدّل الرّهنان⁣(⁣٤) وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها، حتى أتممتها، فإذا أنا


(١) لبّبها: أخذ بتلابيبها، وهي مجتمع ثيابها عند العنق، وفي مم: «فكببها» بدل «لببّها».

(٢) ف:

«بأبي كل أصهب ... أزرق العين أشقر «

(٣) ف: «رأينا جماعة من الخدم معهم جماعة الحرام». والعماريات: الهوادج، والجمازات جمع جماز وتوصف بها النياق السريعة.

(٤) عدّل الرهنان: سوّى بين المبلغين اللذين تراهن عليهما المتراهنان.