كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر أبي خراش الهذلي وأخباره

صفحة 147 - الجزء 21

  وقالت: أراه بعد عروة لاهيا ... وذلك رزء لو علمت جليل

  فلا تحسبي أني تناسيت فقده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل⁣(⁣١)

  ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... نديما صفاء مالك وعقيل⁣(⁣٢)

  أبى الصبر أنّي لا يزال يهيجني ... مبيت لنا فيما خلا ومقيل⁣(⁣٣)

  وأني إذا ما الصّبح آنست ضوءه ... يعادوني قطع عليّ ثقيل⁣(⁣٤)

  / قال أبو عمرو: فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة بن عديّ بن الدّيل حينا من الدهر، ثم إنهم هموا بأن يغدروا به، وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة، فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة، وإذا به كلوم، فقال له أبو جندب: مالك؟ فقال: ضربني رجل من جيرانك، فأقبل أبو جندب، حتى أتى جيرانه من بني نفاثة، فقال لهم: يا قوم، ما هذا الجوار؟ لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا، أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا؟.

  فقالوا: أو لم يكن بنو لحيان⁣(⁣٥)، يقتلوننا، فو اللَّه ما قرّت دماؤنا، وما زالت تغلي، واللَّه إنك للثّار المنيم⁣(⁣٦)، فقال: أما إنه لم يصب أخي إلَّا خير، ولكنما هذه معاتبة لكم، وفطن للذي يريد القوم من الغدر به، وكان بأسفل دفاق⁣(⁣٧)، فأصبحوا ظاعنين، وتواعدوا ماء⁣(⁣٨) ظرّ، فنفذ الرجال إلى الماء، وأخّروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا، واتخذوا الحياض للإبل، فأمر أبو جندب أخاه جنادة وقال له: اسرح مع نعم القوم.

  ثم توقّف، وتأخّر، حتى تمرّ عليك النّعم كلَّها، وأنت في آخرها سارح بإبلك، واتركها متفرقة في المرعى، فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك، واطردها نحو أرضنا، وموعدك نجد ألوذثنيّة⁣(⁣٩)، في طريق بلاده، وقال لامرأته أمّ زنباع وهي من بني كلب بن عوف: اظعني وتمكَّثي، حتى تخرج آخر ظعينة من النساء.

  ثم توجّهي، فموعدك ثنيّة يدعان من جانب النخلة، وأخذ أبو جندب دلوه، / وورد مع الرجال، فاتّخذ القوم الحياض، واتخذ أبو جندب حوضا، فملأه ماء، ثم قعد عنده، فمرّت به إبل ثمّ إبل، فكلَّما وردت إبل سأل عن إبله فيقولون: قد بلغت، تركناها بالضّجن⁣(⁣١٠).

  ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن أهله، فيقولون: بلغتك، تركناها تظعن، حتى إذا ورد آخر النّعم


(١) في «المختار»:

«تحسبي أنى تناسيت عهده»

(٢) مالك وعقيل هما نديما جذيمة الأبرش، وبهما يضرب المثل في التلازم وطول الألفة، وإليهما يشير متمم بن نويرة بقوله بعد أن قتل خالد بن الوليد أخاه مالك بن نويرة.

وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

(٣) الصبر مفعول، والمصدر المؤول فاعل، المبيت: موضع البيت، المقيل: موضع القيلولة، يقول: نفى الصبر عني تذكر عشرته القديمة وطول مدتها، وفي «المختار»:

«أبى الصير أني لا أزال بمهجتي»

(٤) القطع: انقطاع النفس وضيقه.

(٥) يشيرون إلى حادثة سيأتي ذكرها.

(٦) الثأر المنيم: الذي إذا أدرك استراح صاحبه، ونام.

(٧) دفاق: مكان.

(٨) ظر: في «القاموس»: ماء، وفي «معجم البلدان»: ماء ظراء «بالفتح والمد».

(٩) في هد «الودنية» وفي هج «الوثنية»، والمثبت من ف.

(١٠) ف «الصحن» تحريف. والضجن: واد في بلاد هذيل بتهامة.