كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

نسب الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته

صفحة 181 - الجزء 21

  فرّجتها عنهم، قال: فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها، فإذا حيّ من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم، وإذا أنا بشيخ حادر أشعر⁣(⁣١) يوقدها في مقدم بيته، والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض⁣(⁣٢)، قد حبستهنّ ثلاث ليال.

  فسلَّمت فقال الشيخ: من أنت؟ فقلت: أنا صعصعة بن ناجية بن عقال، قال: مرحبا بسيدنا، ففيم أنت يا بن أخي؟

  فقلت: في بغاء ناقتين لي فارقتين عمّي عليّ أثرهما، فقال: قد وجدتهما بعد أن أحيا اللَّه بهما أهل بيت من قومك، وقد نتجناهما، وعطفت إحداهما على الأخرى، وهما تانك في أدنى الإبل. قال: قلت: ففيم توقد نارك منذ الليلة؟ قال: أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال، وتكلَّمت النساء فقلن: قد جاء الولد، فقال الشيخ: إن كان غلاما فو اللَّه ما أدري ما أصنع به، وإن كانت جارية فلا أسمعنّ صوتها - أي اقتلها - فقلت: يا هذا ذرها فإنها ابنتك، ورزقها على اللَّه، فقال: اقتلنها، فقلت: أنشدك اللَّه، فقال: إني أراك بها حفيّا، فاشترها مني، فقلت: إني أشتريها منك، فقال: ما تعطيني؟ قلت: أعطيك إحدى ناقتيّ قال: لا، قلت: فأزيدك الأخرى، فنظر إلى جملي الذي تحتي، فقال: لا، إلا أن تزيدني / جملك هذا، فإني أراه حسن اللون شابّ السّن، فقلت: هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه، قال: قد فعلت، فابتعتها منه بلقوحين⁣(⁣٣) وجمل، وأخذت عليه عهد اللَّه وميثاقه ليحسننّ برّها وصلتها ما عاشت، حتى تبين منه، أو يدركها الموت، فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فآليت ألَّا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل، فبعث اللَّه ø محمدا #، وقد أحييت مائة موؤودة إلا أربعا، ولم يشاركني في ذلك أحد، حتى أنزل اللَّه تحريمه في القرآن، وقد فخر بذلك الفرزدق في عدّة قصائد من شعره، ومنها قصيدته التي أوّلها:

  أبي أحد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والدّلو يمطر⁣(⁣٤)

  أجار بنات الوائدين ومن يجر ... على الفقر يعلم أنه غير مخفر⁣(⁣٥)

  على حين لا تحيا البنات وإذ هم ... عكوف على الأصنام حو المدوّر⁣(⁣٦)

  -(⁣٧) المدوّر: يعني الدّوّار الذي حول الصنم، وهو طوافهم⁣(⁣٧) -.

  أنا ابن الذي ردّ المنية فضله ... فما حسب دافعت عنه بمعور⁣(⁣٨)

  / وفارق ليل من نساء أتت أبي ... تمارس ريحا ليلها غير مقمر⁣(⁣٩)


(١) حادر: سمين الجسم غليظ.

(٢) ماخض: أدركها المخاض.

(٣) بلقوحين: بناقتين حاملتين.

(٤) يقصد أن هناك غيثا في السماء وغيثا في الأرض، فغيث السماء المطر، وغيث الأرض أبوه، وأن أباه خير الغيثين، فإنه لا يخلف إذا أخلفت بروج السماء.

(٥) غير مخفر: غير ناقض للعهد.

(٦) حين بفتح النون وكسرها، وهم: القوم لا البنات.

(٧ - ٧) التكملة من هد، هج.

(٨) معور: معيب.

(٩) وفارق: «الواو واو رب»، والفارق: الناقة أخذها المخاض فندت في الأرض، والمراد هنا المرأة لا الناقة، تمارس ريحا ... إلخ:

تعاني ليلة مظلمة عاصفة الرياح.