أخبار خالد بن عبد الله
  جئتنا بعمر بن أبي ربيعة من غير أن يعلم أنا بعثنا بك إليه، فقال: أفعل فكيف تريان أن أقول له؟ قالتا: تؤذنه(١) بنا، وتعلمه أنا خرجنا في سرّ منه، ومره أن يتنكر، ويلبس لبسة الأعراب، ليرانا في أحسن صورة، ونراه في أسوإ حال، فنمزح بذلك معه، فجاء خالد إلى عمر، فقال له: هل لك في هند والرباب وصواحبات لهما قد خرجن إلى العقيق على حال حذر منك وكتمان لك أمرهما(٢)؟ قال: واللَّه إني إلى لقائهن لمشتاق، قال: فتنكر، والبس لبسة الأعراب، وهلمّ نمض إليهن، ففعل ذلك عمر، ولبس ثيابا جافية، وتعمّم عمّة الأعراب، وركب قعودا له على رحل غير جيد، وصار إليهن، فوقف منهن قريبا، وسلَّم، فعرفنه، فقلن: هلمّ إلينا يا أعرابيّ، فجاءهن، وأناخ قعوده، وجعل يحدثهن، وينشدهن، فقلن له: يا أعرابي: ما أظرفك، وأحسن إنشادك! فما جاء بك إلى هذه الناحية؟ قال:
  جئت أنشد ضالَّة لي، فقالت له هند: انزل إلينا، واحسر عمامتك عن وجهك، فقد عرفنا ضالَّتك، وأنت الآن تقدّر أنّك قد احتلت علينا، ونحن واللَّه احتلنا عليك وبعثنا إليك بخالد / الخرّيت، حتى قال لك ما قال، فجئتنا على أسوإ حالاتك، وأقبح ملابسك، فضحك عمر، ونزل إليهن، فتحدّث معهن، حتى أمسوا، ثم إنهم تفرقوا، ففي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة:
  صوت
  ألم تعرف الأطلال والمتربّعا ... ببطن حليّات دوارس بلقعا(٣)
  إلى السّرح من وادي المغمّس بدّلت ... معالمه وبلا ونكباء زعزعا(٤)
  / فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما ... نكأن فؤادا كان قدما مفجّعا(٥)
  لهند وأتراب لهند إذ الهوى ... جميع وإذ لم نخش أن يتصدّعا
  في هذه الأبيات ثقيل أول لمعبد:
  تبالهن بالعرفان لمّا رأينني ... وقلن امرؤ باغ أكلّ وأوضعا(٦)
  وقرّبن أسباب الهوى لمتيّم ... يقيس ذراعا كلمّا قسن إصبعا
  كان جده عبدا آبقا
  أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني، وذكر مثل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى:
(١) تؤذنه: تعلمه.
(٢) أمرهما: مفعول للمصدر «كتمان».
(٣) حليات: جمع حلية، وهي ما ابيض من يبس النصي، وهو نبت سبط من أجود المراعي، وفي هج؛ «حليات» - بالحاء المعجمة - «دوارس بلقعا» حالان من الأطلال لا صفتان لحليات، وفي هج: «ألم تسأل» بدل «ألم تعرف».
(٤) في هج: «السفح» بدل «السرح»، المغمس: مكان. النكباء. الزعزع: الريح العاتية.
(٥) نكأن فؤادا: من نكأ الجرح، قشرة قبل أن يبرأ، فدمي.
(٦) تبالهن: تظاهرن بالبله، أكل: أرهق دابته، أوضع: أسرع بدابته حتى أنهكها، والمراد أنهن تظاهرن بعدم معرفته، وقلن؛ أعرابي أجهده السير، وأجهد راحلته.