أخبار حنين الحيري ونسبه
  الفتيان ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والمتطرّبين إلى الحيرة ورأوا رشاقته وحسن قدّه وحلاوته وخفّة روحه استحلوه، وأقام عندهم وخفّ لهم، فكان يسمع الغناء ويشتهيه ويصغي إليه ويستمعه ويطيل الإصغاء إليه، فلا يكاد ينتفع به في شيء إذا سمعه، حتى شدا منه أصواتا فأسمعها الناس - وكان مطبوعا حسن الصوت - واشتهوا غناءه والاستماع منه وعشرته، وشهر بالغناء ومهر فيه، وبلغ منه مبلغا كبيرا، ثم رحل إلى عمر بن داود الواديّ وإلى حكم الواديّ، وأخذ منهما، وغنّى لنفسه في أشعار الناس، فأجاد الصّنعة وأحكمها، ولم يكن بالعراق غيره فاستولى(١) عليه في عصره. وقدم ابن محرز حينئذ إلى الكوفة فبلغ خبره حنينا، وقد كان يعرفه، فخشي أن يعرفه الناس فيستحلوه(٢) ويستولي على البلد فيسقط هو، قال له: كم منّتك نفسك من العراق؟
  قال: ألف دينار، قال: فهذه خمسمائة دينار عاجلة فخذها وانصرف واحلف لي أنك لا تعود إلى العراق؛ فأخذها وانصرف.
  أخبرني عميّ وعيسى بن الحسين قالا حدّثنا أبو أيوب المدائنيّ(٣) عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال:
  / كان ابن محرز قدم الكوفة وبها بشر بن مروان، وقد بلغه أنه يشرب الشراب ويسمع الغناء، فصادفه وقد(٤) خرج إلى البصرة؛ وبلغ خبره حنين بن بلوع فتلطَّف له حتى دعاه؛ فغنّاه ابن محرز لحنه - قال أحمد بن إبراهيم وهو من الثقيل الثاني من جيّد الأغاني -:
  صوت
  وحرّ الزّبرجد في نظمه ... على واضح اللَّيت(٥) زان العقودا
  يفصّل ياقوته درّه ... وكالجمر أبصرت فيه الفريدا(٦)
  / قال: فسمع شيئا هاله وحيّره، فقال له حنين: كم منّتك نفسك من العراق؟ قال: ألف دينار، فقال: هذه خمسمائة دينار حاصلة عاجلة ونفقتك في عودتك وبدأتك ودع العراق لي وامض مصاحبا حيث شئت - قال: وكان ابن محرز صغير الهمّة لا يحبّ عشرة الملوك ولا يؤثر على الخلوة شيئا - فأخذها وانصرف.
  خرج إلى حمص وغنّى بها فلم يستطعم أهلها غناؤه
  وقال حمّاد في خبره قال أبي حدّثني بعض أهل العلم بالغناء عن حنين قال:
= العرب في الجاهلية يفعلون ذلك في عيد لهم يقال له يوم السباسب قال النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب
ويظهر أن هذه العادة ظلت إلى العهد الإسلامي، وسيأتي في هذه الترجمة في ص ٣٥٢ أن حنينا حيا ضيوفه بالرياحين.
(١) في ح: «فاستوى» وكلاهما بمعنى واحد.
(٢) كذا في ح. وفي سائر النسخ: «فيستحلونه» بإثبات النون وهو خطأ.
(٣) في ح، أ: «المدنيّ» وفي م، ء، ط: «المدينيّ» وقد تقدّم الكلام عليه (انظر الحاشية رقم ٢ ص ٨ من هذا الجزء).
(٤) في ب، ح، ء: «قد خرج» بدون واو وكلاهما مستقيم.
(٥) الليت (بسكر اللام): صفحة العنق.
(٦) الفريد: الدر إذا نظم وفصل بغيره.