كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار حنين الحيري ونسبه

صفحة 564 - الجزء 2

  خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها وأرتاد من أستفيد منه شيئا، فسألت عن الفتيان⁣(⁣١) [بها]⁣(⁣٢) وأين يجتمعون، فقيل لي: عليك بالحمّامات فإنهم يجتمعون بها إذا أصبحوا / فجئت إلى أحدها فدخلته، فإذا فيه جماعة منهم، فأنست وانبسطت، وأخبرتهم أني غريب، ثم خرجوا وخرجت معهم، فذهبوا بي إلى منزل أحدهم، فلما قعدنا أتينا بالطَّعام فأكلنا وأتينا بالشراب فشربنا، فقلت لهم: هل لكم في مغنّ يغنّيكم؟ قالوا: ومن لنا بذلك؟

  قلت: أنا لكم به، هاتوا عودا فأتيت به، فابتدأت في هنيّات⁣(⁣٣) أبي عبّاد معبد، فكأنّما غنّيت للحيطان لا فكهوا لغنائي ولا سرّوا به، فقلت: ثقل عليهم غناء معبد لكثرة عمله وشدّته وصعوبة مذهبه، فأخذت في غناء الغريض فإذا هو عندهم كلا شيء، وغنّيت خفائف ابن سريج، وأهزاج حكم، والأغاني التي لي، واجتهدت في أن يفهموا، فلم يتحرّك من القوم أحد، وجعلوا يقولون: ليت أبا منبّه قد جاءنا، فقلت في نفسي: أرى أنّي سأفتضح اليوم بأبي منبّه فضيحة لم يفتضح أحد قطَّ مثلها. فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو منبّه، وإذا هو شيخ عليه خفّان أحمران كأنه جمّال، فوثبوا جميعا إليه وسلَّموا عليه وقالوا: يا أبا منبّه أبطأت علينا، وقدّموا له الطَّعام وسقوه أقداحا، وخنست⁣(⁣٤) أنا حتى صرت كلا شيء خوفا منه، فأخذ العود ثم اندفع يغنّي:

  طرب⁣(⁣٥) البحر فاعبري يا سفينة ... لا تشقّي على رجال المدينة

  فأقبل⁣(⁣٦) القوم يصفّقون ويطربون ويشربون، ثم أخذ في نحو هذا من الغناء؛ فقلت في نفسي: أنتم ها هنا! لئن أصبحت سالما لا أمسيت في هذه البلدة. فلمّا أصبحت شددت رحلي على ناقتي واحتقبت⁣(⁣٧) ركوة من شراب ورحلت متوجّها إلى الحيرة، وقلت:

  ليت شعري متى تخبّ بي النا ... قة بين السّدير والصّنّين⁣(⁣٨)

  محقبا ركوة⁣(⁣٩) وخبز رقاق ... وبقولا وقطعة من نون⁣(⁣١٠)


(١) الفتيان: طائفة يدينون بالفتوة وخصال الرجولة وهم أشدّ الناس احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، فيخدمون بالنهار ويشترون بما يتجمع معهم الفواكه والطعام فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه وكان ذلك ضيافته لديهم وإن لم يرد وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعاتهم بالغدو وقد كان الخليفة الناصر العباسيّ المتوفى سنة ٦٢٢، قد جعل نفسه رئيسا لهذه الطائفة وكتب سنة ٦٠٧ إلى ملوك الأطراف الذين يعترفون بخلافته أن يشربوا كأس الفتوة ويلبسوا سراويلها وأن ينتسبوا إليه برمي البندق (انظر «رحلة ابن بطوطة» طبع باريس ج ٢ ص ٢٦٠ و «رحلة ابن جبير» طبع ليدن ص ٢٨٢، و «تاريخ التمدن الإسلامي» لجرجي زيدان ج ٥ ص ١٦٩).

(٢) الزيادة عن أ، م.

(٣) الهنيات: الأراجيز.

(٤) خنس الرجل من القوم خنوسا: تأخر واختفى.

(٥) في م، ء، ط: «طرف البحر فاضربي يا سفينة». وفي أ: «ظرف البحر الخ».

(٦) في أ، م: «فأخذ».

(٧) احتقب ركوة: احتملها خلفه. والركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. وفي ط: «زكرة». والزكرة (بالضم): زق صغير للشراب.

(٨) راجع الحاشية رقم ٣ من صفحة ١١٦ من هذا الجزء. وفي هذا الشعر السناد وهو، كما فسره ابن سيدة المخالفة بين الحركات التي تلي الأرداف في الروي (انظر الجزء الأوّل من هذه الطبعة ص ١٤٣، حاشية رقم ١.

(٩) في ط: «زكرة». وانظر الكلام عليها في الصفحة السابقة حاشية رقم ٥.

(١٠) النون: الحوت.