كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

خبر عبد الله بن يحيى وخروجه وقتله

صفحة 171 - الجزء 23

  المدينة، مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعها عنكم، فزاد الغنيّ غنى، وزاد الفقير فقرا، فقلتم: جراكم للَّه خيرا، فلا جراه اللَّه خيرا، / ولا جزاكم.

  خطبة أخرى جامعة مانعة:

  قال هارون: وأخبرني يحيى بن زكريا: أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة: رقي المنبر، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، وقال: أتعلمون يا أهل المدينة، أنّا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا ثأر قديم نيل منا، ولكنّا لمّا رأينا مصابيح الحقّ قد عطَّلت، وعنّف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي اللَّه {ومَنْ لا يُجِبْ داعِيَ أللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ}⁣(⁣١) فأقبلنا من قبائل شتّى، النفر منا على بعير واحد، عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا / واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا اللَّه، وأيّدنا بنصره، وأصبحنا - واللَّه - بنعمته إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعونا إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن ودعونا إلى طاعة الشيطان، وحكم مروان، وآل مروان، شتّان - لعمر اللَّه - ما بين الغيّ والرّشد، ثم أقبلوا يهرعون، ويزفّون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنّه، وأقبل أنصار اللَّه عصائب وكتائب بكل مهنّد ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم اللَّه بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين، يا أهل المدينة: إن أوّلكم خير أوّل، وآخركم شرّ آخر، يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا، يا أهل المدينة، من زعم أن اللَّه تعالى كلَّف نفسا فوق طاقتها، أو سألها عمّا لم يؤتها فهو للَّه عدوّ، ولنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها اللَّه تعالى في كتابه على القويّ للضّعيف فجاء التاسع، وليس له منها ولا سهم واحد، فأخذ جميعها⁣(⁣٢) نفسه مكابرا محاربا لربّه، ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله؟

  يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول اللَّه ، إلا شبابا أحداثا! شباب واللَّه مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلَّما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار؛ وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد أنضيت؛ وإلى الرماح قد أشرعت وإلى السهام قد فوّقت؛ / وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفّوا وعيد الكتيبة عند وعيد اللَّه، ولم يستخفّوا وعيد اللَّه عند وعيد الكتيبة؛ فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية اللَّه، وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا. أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه من تقصيرنا، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلت وإليه أنيب.


(١) الأحقاف: ٣٢.

(٢) كذا في ف وفي س، ب: «جميعهما».