أخبار عروة بن الورد ونسبه
  ثم مضى يبتغي لهم شيئا وقد جهدوا، فإذا هو بأبيات شعر وبامرأة قد خلا من سنّها وشيخ كبير كالحقاء(١) الملقى، فكمن في كسر بيت منها، وقد أجدب الناس وهلكت الماشية، فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشويّة - فقال ثمامة: وما السّحور؟ قال: الحلقوم بما فيه - والبيت خال فأكلها، وقد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئا فاشبعته وقوي، فقال: لا أبالي من لقيت بعد هذا. ونظرت المرأة فظنّت أنّ الكلب أكلها فقالت للكلب: أفعلتها يا خبيث! وطردته. فإنه لكذلك / إذا هو عند المساء بإبل قد ملأت الأفق وإذا هي تلتفت فرقا، فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها، فلما أتت المناخ بركت، ومكث الراعي قليلا ثم أتى ناقة منها فمرى(٢) أخلافها، ثم وضع العلبة على ركبتيه وحلب حتى ملأها، ثم أتى الشيخ فسقاه، ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك(٣) وسقى العجوز، ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو، ثم التفع بثوب واضطجع ناحية، فقال الشيخ للمرأة وأعجبه ذلك: كيف ترين ابني؟ فقالت: ليس بابنك! قال: فابن من ويلك؟ قالت: ابن عروة بن الورد، قال: ومن أين؟ قالت: أتذكر يوم مرّ بنا يريد(٤) سوق ذي المجاز فقلت: هذا عروة بن الورد، ووصفته لي بجلد فإني استطرفته(٥). قال: فسكت، حتى إذا نوّم(٦) وثب عروة وصاح بالإبل فاقتطع منها نحوا من النصف ومضى ورجا ألَّا يتبعه الغلام - وهو غلام حين بدا شاربه - فاتّبعه. قال: فاتخذا(٧) وعالجه، قال: فضرب به الأرض فيقع قائما، فتخوّفه على نفسه، ثم واثبه فضرب به وبادره، فقال: إنّي عروة بن الورد، وهو يريد أن يعجزه عن نفسه. قال: فارتدع، ثم قال مالك ويلك! لست أشكّ أنك قد سمعت ما كان من أمّي؛ قال قلت نعم. فاذهب معي أنت وأمك وهذه الإبل ودع هذا الرجل فإنه لا ينهاك(٨) عن شيء، قال: الذي بقي من عمر الشيخ قليل، وأنا مقيم معه ما بقي، فإن له حقّا وذماما، فإذا هلك فما أسرعني إليك، وخذ من هذه الإبل بعيرا؛ قلت: لا يكفيني، إنّ معي / أصحابي(٩) قد خلَّفتهم؛ قال: فثانيا، قلت لا؛ قال: فثالثا، واللَّه لا زدتك على ذلك(١٠). فأخذها ومضى إلى أصحابه، ثم إنّ الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ.
  قال: واللَّه يا أمير المؤمنين لقد زيّنته عندنا وعظَّمته في قلوبنا؛ قال: فهل أعقب عندكم؟ قال لا، ولقد كنا نتشاءم / بأبيه، لأنه هو الذي أوقع الحرب بين عبس وفزارة بمراهنته حذيفة، ولقد بلغني أنه كان له ابن أسنّ من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه ويقرّبه، فقيل له: أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضعفه! قال: أترون هذا الأصغر! لئن بقي مع ما رأى ما شدّة نفسه ليصيرنّ الأكبر عيالا عليه.
(١) كذا في أكثر النسخ. والحقاء: الإزار. وفي ب، س، ح: «كالخباء».
(٢) مري أخلافها: مسح ضرعها لتدرّ.
(٣) كذا في أكثر الأصول. وفي ب، س، ح: «كذلك».
(٤) كذا في أ، م. وفي أكثر الأصول: «مرّ بنا ونحن نريد».
(٥) كذا في ط، ء. واستطرفته: عددته طريفا. ولعلها: استظرفته. وفي باقي الأصول: «استطرقته» بالقاف.
(٦) نوّم: مبالغة في نام.
(٧) كذا في ط، ء. يقال اتخذ القوم إذا أخذ بعضهم بعضا في القتال. وفي ح: «فاتحدا». وفي باقي الأصول: «فانحدرا».
(٨) كذا فيء وهامش ط. ومعنى لا ينهاك عن شيء أنه لا غناء فيه فلا ينهاك عن تطلب غيره. وفي ب، س: «لا يهنئك» وفي باقي الأصول «لا ينهيك» وكلاهما تحريف.
(٩) في ح: «أصحابا».
(١٠) كذا في أكثر النسخ. وفي ب، س، ح: «واللَّه لا زدتك على ذلك شيئا» بزيادة كلمة شيء.