كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

2 - ذكر معبد وبعض أخباره

صفحة 71 - الجزء 1

  أيّها العائب عندي هواها ... أنت تفدي من أراك تعيب

  - والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر، والغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى البنصر - قال: فأخلَّت ببعضه.

  فقال لها معبد: يا جارية، لقد أخللت بهذا الصوت إخلالا شديدا. فغضب الرجل وقال له: ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك. وغنّى الجواري مليّا، ثم غنّت إحداهنّ:

  صوت

  خليليّ عوجا فابكيا⁣(⁣١) ساعة معي ... على الرّبع نقضي حاجة ونودّع

  ولا تعجلاني أن ألمّ بدمنة ... لعزّة لاحت لي ببيداء بلقع

  وقولا لقلب قد سلا: راجع الهوى ... وللعين: أذري من دموعك أو دعي

  فلا عيش إلا مثل عيش مضى لنا ... مصيفا أقمنا فيه من بعد مربع

  - الشعر لكثيّر، والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى، وفيه رمل للغريض - قال: فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد: يا هذه، أما تقوين⁣(⁣٢) على أداء صوت واحد؟ فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة! وأقسم باللَّه لئن عاودت لأخرجنّك من السفينة، فأمسك معبد، حتى إذا سكتت / الجواري سكتة اندفع يغنّي الصوت الأوّل حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت واللَّه يا رجل! فأعده. فقال: لا واللَّه ولا كرامة. ثم اندفع يغنّي الثاني، فقلن لسيدهنّ: ويحك! هذا واللَّه أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا ولو مرّة واحدة لعلَّنا نأخذه عنه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا. فقال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكنّ وأنا خائف مثله منه، وقد أسلفناه الإساءة، فاصبرن حتى نداريه. ثم غنّى الثالث، فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فخرج إليه وقبّل رأسه وقال: يا سيّدي / أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: فهبك لم تعرف موضعي، قد كان ينبغي لك أن تتثبّت ولا تسرع إليّ بسوء العشرة وجفاء القول. فقال له: قد أخطأت وأنا أعتذر إليك مما جرى، وأسألك أن تنزل اليّ وتختلط بي. فقال: أمّا الآن فلا. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه. فقال⁣(⁣٣) له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ فقال: أخذنه من جارية كانت لي ابتاعها رجل من أهل البصرة من مكة، وكانت قد أخذت عن أبي عبّاد معبد وعني بتخريجها، فكانت تحلّ منّي محلّ الروح من الجسد، ثم استأثر اللَّه ø بها، وبقي هؤلاء الجواري وهنّ من تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصّب لمعبد وأفضّله على المغنّين جميعا وأفضّل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: أو إنك⁣(⁣٤) لأنت هو! أفتعرفني؟ قال لا. قال: فصكّ⁣(⁣٥) معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا واللَّه معبد، وإليك قدمت من الحجاز، ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، وو اللَّه لا قصّرت في جواريك هؤلاء، ولأجعلنّ لك في كلّ واحدة منهنّ خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل والجواري على يديه ورجليه يقبّلونها ويقولون: كتمتنا نفسك طول / هذا


(١) في جميع الأصول: «عوجا منكما». والتصويب من نسخة «مسالك الأبصار» المخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم ٩٩ تاريخ م.

(٢) في أ، ت، ء، م: «أما تقومين».

(٣) في ت: «فقال: أيها الرجل».

(٤) في ت: «وإنك لأنت هو» بغير همزة الاستفهام.

(٥) صكّ: ضرب.