كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار عكاشة العمي ونسبه

صفحة 180 - الجزء 3

  فرأيته في بعض أيّامه متغير الهيئة عمّا عهدته مقسّم القلب والفكر غير آخذ ما كنّا فيه من الفكاهة والمزاح، فسألته عن حاله فكاتمنيها مليّا، ثم أخبرني أنه يهوى جارية لبعض الهشاميّين يقال لها نعيم، وأن مرامها عليه مستصعب لا يراها إلَّا من جناح لدارهم، تشرف عليه في الفيئة⁣(⁣١) بعد الفيئة فتكلَّمه كلاما يسيرا ثم تذهب، فعاتبته على ذلك فلم يزدجر وتمادى في أمره، ثم جاءني يوما، فقال: قد وعدتني الزيارة لأنّ شكواي إليها طالت، فقلت له: فهل حقّقت لك الوعد على يوم بعينه؟ قال: لا، إنما سألتها الزيارة فقالت: نعم أفعل، فقلت له: هذا واللَّه أعجب من سائر ما مضى، وأيّ شيء لك في هذا من الفائدة بلا تحصيل وعد! فقال لي: يا أخي، إنّ لي في قولها: «نعم» فرجا كبيرا، فقلت: أنت أقنع الناس؛ ثم جاءني بعد يومين وهو كاسف البال مهموم، فقلت له: ما لك؟ فقال: مضيت إلى نعيم فتنجّزت وعدها، فقالت لي: إن لي صاحبة أستنصحها وأعلم أنها تشفق عليّ شفقة الأخت على أختها والأمّ على ولدها وقد / نهتني عن ذلك، وقالت لي: إنّ في الرجال غدرا ومكرا، ولا آمن أن تفتضحي ثم لا تحصلي منه على شيء؛ وقد انقطعت عنّي ثم أنشدني لنفسه:

  /

  علام حبل الصفاء منصرم ... وفيم عنّي الصدود والصّمم

  يا من كنينا عن اسمه زمنا ... نتبع مرضاته ويجترم⁣(⁣٢)

  قد عيل صبري وأنت لاهية ... عنّي وقلبي عليك يضطرم

  من جذّ حبل الوفاء سيّدتي ... منك ومن سامني له العدم

  فكم أتاني واش يعيبكم ... فقلت اخسأ لأنفك الرّغم

  أنت الفدا والحمى لمن عبت فار ... جع صاغرا راغما لك الندم

  صوت

  يا ربّ خذ لي من الوشاة إذا ... قاموا وقمنا إليك نختصم

  دبّوا إليها يوسوسون لها ... كي يستزلَّوا حبيبتي زعموا

  هيهات من ذاك ضلّ سعيهم ... ما قلبها المستعار يقتسم

  يا حاسدينا موتوا بغيظكم ... حبلي متين بقولها نعم

  باللَّه لا تشمتي العداة بنا ... كوني كقلبي فلست أتّهم

  زارته نعيم وغنته ثم ذهبت فقال شعرا في ذلك:

  - الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل. وقيل: إنه لغيرها - قال: ثم طال ترداده إليها واستصلاحه لها، فلم ألبث أن جاءتني رقعته في يوم خميس يعلمني أنها قد حصلت عنده ويستدعيني فحضرت، وتوارت عنّي ساعة وهو يخبرها أنّه لا فرق بيني وبينه ولا يحتشمني في حل البتّة إلى أن خرجت، فاجتمعنا وشربنا وغنّت غناء حسنا إلى وقت العصر ثم انصرفت، وأخذ دواة ورقعة فكتب فيها:


(١) الفيئة: الحين، وفي بعض الأصول «العينة» ولعلها محرفة عن «الفينة» وهي بمعنى الفيئة.

(٢) في الأصول: «ونجترم» بالنون والسياق يأباها.