كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار الحارث بن خالد المخزومي ونسبه

صفحة 215 - الجزء 3

  قال: نعم؛ قال: فلا تظلمهم، فو اللَّه ما أحسنوا منه شيئا قط! فضحك وخلَّى سبيلهم.

  استقدمه الوليد بن يزيد من المدينة فغناه فطرب وألقى نفسه في بركة خمر:

  أخبرني محمد بن مزيد وجحظة قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال قرأت على أبي عن محمد بن عبد الحميد بن إسماعيل بن عبد الحميد بن يحيى عن عمّه أيّوب بن إسماعيل قال:

  لما استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بالشخوص إليه بعطرّد المغنّي؛ قال عطرّد: فأقرأني العامل الكتاب وزوّدني نفقة وأشخصني إليه، فأدخلت عليه وهو جالس في قصره على شفير بركة مرصّصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة ولكنها يدور الرجل فيها سباحة، فو اللَّه ما تركني أسلَّم عليه حتى قال: / أعطَّرد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: لقد كنت إليك مشتاقا يا أبا هارون. غنّني:

  حيّ الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي

  إني بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي

  وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقا مثلي

  قال: فغنّيته إيّاه، فو اللَّه ما أتممته حتى شقّ حلَّة وشى كانت عليه لا أدري كم قيمتها، فتجرّد / منها كما ولدته أمّه وألقاها نصفين، ورمى بنفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت - علم اللَّه - فيها أنها قد نقصت نقصانا بينا، وأخرج منها وهو كالمّيت سكرا، فأضجع وغطَّي، فأخذت الحلَّة وقمت، فو اللَّه ما قال لي أحد: دعها ولا خذها، فانصرفت إلى منزلي متعجّبا مما رأيت من ظرفه وفعله وطربه؛ فلما كان من غد جاءني رسوله في مثل الوقت فأحضرني، فلما دخلت عليه قال لي: يا عطرّد، قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال غنّني:

  أيذهب عمري هكذا لم أنل بها ... مجالس تشفي قرح قلبي من الوجد

  وقالوا تداو إنّ في الطَّبّ راحة ... فعلَّلت نفسي بالدواء فلم يجد

  فغنّيته إيّاه، فشقّ حلَّة وشى كانت تلتمع عليه بالذهب التماعا احتقرت واللَّه الأولى عندها، ثم ألقى نفسه في البركة فنهل فيها حتى تبيّنت - علم اللَّه - نقصانها، وأخرج [منها]⁣(⁣١) كالميّت سكرا، وألقي وغطَّي فنام، وأخذت الحلَّة فو اللَّه ما قال لي أحد: دعها ولا خذها، وانصرفت؛ فلما كان اليوم الثالث جاءني رسوله فدخلت إليه وهو في بهو قد ألقيت ستوره، فكلَّمني من وراء الستور وقال: يا عطرّد /، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كأني بك الآن قد أتيت المدينة فقمت بي في مجلسها ومحفلها وقعدت وقلت: دعاني أمير المؤمنين فدخلت إليه فاقترح عليّ فغنّيته وأطربته فشقّ ثيابه وأخذت سلبه وفعل وفعل، واللَّه يا بن الزانية، لئن تحرّكت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربنّ عنقك، يا غلام أعطه ألف دينار، خذها وانصرف إلى المدينة؛ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في تقبيل يده، ويزوّدني نظرة منه وأغنّيه صوتا! فقال: لا حاجة بي ولا بك إلى ذلك، فانصرف. قال عطرّد:

  فخرجت من عنده وما علم اللَّه أني ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بني هاشم مدّة.


(١) الزيادة عنء.