كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره

صفحة 271 - الجزء 4

  قال لي هذا القول أضحكني حتّى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح اللَّه صدره للإسلام.

  بخله، ونوادر مختلفة في ذلك:

  أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني عليّ بن المهديّ قال قال الجاحظ: حدّثني ثمامة قال:

  دخلت يوما إلى أبي العتاهية فإذا هو يأكل خبزا بلا شيء. فقلت: كأنك رأيته يأكل خبزا وحده؛ قال: لا! ولكنّي رأيته يتأدّم بلا شيء. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: رأيت قدّامه خبزا يابسا من رقاق فطير وقدحا فيه لبن حليب، فكان يأخذ / القطعة من الخبز فيغمسها من اللبن ويخرجها ولم تتعلَّق منه بقليل ولا كثير؛ فقلت له: كأنك اشتهيت أن تتأدّم بلا شيء، وما رأيت أحدا قبلك تأدّم بلا شيء.

  قال الجاحظ: وزعم لي بعض أصحابنا قال: دخلت على أبي العتاهية في بعض المتنزّهات، وقد دعا عيّاشا صاحب الجسر وتهيّأ له بطعام، وقال لغلامه: إذا وضعت قدّامهم الغداء فقدّم إليّ ثريدة⁣(⁣١) بخلّ وزيت. فدخلت عليه، وإذا هو يأكل منها أكل متكمّش⁣(⁣٢) غير منكر لشيء. فدعاني فمددت يدي معه، فإذا بثريدة بخلّ وبزر بدلا من الزّيت. فقلت له: أتدري ما تأكل؟ قال: نعم ثريدة بخلّ وبزر. فقلت: وما دعاك إلى هذا؟ قال: غلط الغلام بين دبّة⁣(⁣٣) الزيت ودبّة البزر؛ فلمّا جاءني كرهت التجبّر وقلت: دهن كدهن، فأكلت وما أنكرت شيئا.

  أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا عبد اللَّه بن عطيّة الكوفيّ قال حدّثنا محمد بن عيسى الخزيميّ، وكان جار أبي العتاهية، قال:

  كان لأبي العتاهية جار يلتقط النّوى ضعيف سيّء الحال متجمّل⁣(⁣٤) عليه ثياب فكان يمرّ بأبي العتاهية طرفي النهار؛ فيقول أبو العتاهية: اللهم أغنه عمّا هو بسبيله، شيخ ضعيف سيّء الحال عليه ثياب متجمّل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه. فبقي على هذا إلى أن مات الشيخ نحوا من عشرين سنة. وو اللَّه⁣(⁣٥) إن تصدّق عليه بدرهم ولا دانق قطَّ، وما زاد على الدعاء شيئا. فقلت له يوما: يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم أنه فقير مقلّ، فلم لا تتصدّق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد الصّدقة، والصدقة أخر⁣(⁣٦) كسب العبد، وإنّ في الدعاء لخيرا كثيرا.

  / قال محمد بن عيسى الخزيميّ هذا: وكان لأبي العتاهية خادم أسود طويل كأنه محراك أتّون، وكان يجري عليه في كل يوم رغيفين. فجاءني الخادم يوما فقال لي: واللَّه ما أشبع. فقلت: وكيف ذاك؟ قال: لأنّي ما أفتر من الكدّ وهو يجري عليّ رغيفين بغير إدام. فإن رأيت أن تكلَّمه حتى يزيدني رغيفا فتؤجر! فوعدته بذلك. فلمّا جلست معه مرّ بنا الخادم فكرهت إعلامه أنّه شكا إليّ ذلك، فقلت له: يا أبا إسحاق، كم تجري على هذا الخادم في كلّ


(١) في ب، س: «ثردة» والثردة (بالضم): الاسم من ثرد الخبز أي فته ثم بلَّه بمرق.

(٢) تكمش الرجل: أسرع.

(٣) الدبة: الوعاء للبزر والزيت.

(٤) المتجمل: الفقير الذي لم يظهر على نفسه المسكنة والذل.

(٥) في أ، ح، ء: «لا واللَّه».

(٦) أي أرذله وأدنؤه. ويجوز مد الألف.