ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره
  فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله:
  روائح الجنّة في الشّباب
  فإنّ له معنى كمعنى الطَّرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل وإدامة التفكير. وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه. وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية، ويقال: إن [له](١) فيها أربعة آلاف مثل. منها قوله:
  حسبك ممّا تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
  الفقر فيما جاوز الكفافا ... من اتّقى اللَّه رجا وخافا
  هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
  لكلّ ما يؤذي وإن قلّ ألم ... ما أطول اللَّيل على من لم ينم
  ما انتفع المرء بمثل عقله ... وخير ذخر المرء حسن فعله
  إنّ الفساد ضدّه الصّلاح ... وربّ جدّ جرّه المزاح
  من جعل النّمّام عينا هلكا ... مبلغك الشرّ كباغيه لكا
  إنّ الشّباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أيّ مفسده
  / يغنيك عن كلّ قبيح تركه ... يرتهن الرأي الأصيل شكَّه
  ما عيش من آفته بقاؤه ... نغّص عيشا كلَّه فناؤه(٢)
  يا ربّ من أسخطنا بجهده ... قد سرّنا اللَّه بغير حمده
  ما تطلع الشمس ولا تغيب ... إلَّا لأمر شأنه عجيب
  لكلّ شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر
  / من لك بالمحض وكلّ ممتزج ... وساوس في الصّدر منه تعتلج
  وكلّ شيء لاحق بجوهره ... أصغره متّصل بأكبره
  ما زالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصّفو بألوان القذى
  الخير والشرّ بها أزواج ... لذا نتاج ولذا نتاج
  من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض
  لكلّ إنسان طبيعتان ... خير وشرّ وهما ضدّان
  إنّك لو تستنشق الشّحيحا ... وجدته أنتن شيء ريحا
  والخير والشرّ إذا ما عدّا ... بينهما بون بعيد جدّا
(١) الزيادة عن أ، م.
(٢) في «ديوانه» ص ٣٤٨: ... عيشا طيّبا فناؤه».