ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره
  قال: وكيف لي بذلك؟ فأخذت بيده فجئت به إلى عبيد اللَّه، وكان لا يعرفه، فتحدّثا ساعة، ثم قال له أبو العتاهية:
  هل لك في بيتين تجيزهما؟ فقال له عبيد اللَّه: إنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ. فقال له: لا نرفث ولا نفسق ولا نجادل. فقال: هات إذا. فقال أبو العتاهية:
  /
  إنّ المنون غدوّها ورواحها ... في الناس دائبة تجيل قداحها
  يا ساكر الدنيا لقد أوطنتها ... ولتنزحنّ وإن كرهت نزاحها
  / فأطرق عبيد اللَّه ينظر إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه فقال:
  خذ لا أبالك للمنيّة عدّة ... واحتل لنفسك إن أردت صلاحها
  لا تغترر فكأنّني بعقاب ري ... ب الموت قد نشرت عليك جناحها
  قال: ثم سمعت الناس ينحلون أبا العتاهية هذه الأربعة الأبيات كلَّها، وليس له إلَّا البيتان الأوّلان.
  قصته في السجن مع داعية عيسى بن زيد:
  أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثنا ميمون بن هارون قال حدّثني إبراهيم بن رباح قال أخبرني إبراهيم بن عبد اللَّه، وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا هارون بن مخارق قال حدّثني إبراهيم بن دسكرة، وأخبرني أحمد بن عبيد اللَّه بن عمّار قال حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال:
  قال أبو العتاهية: حبسني(١) الرشيد لمّا تركت قول الشعر، فأدخلت السجن وأغلق الباب عليّ، فدهشت كما يدهش مثلي لتلك الحال، وإذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيّد، فجعلت أنظر إليه ساعة، ثم تمثّل:
  صوت
  تعوّدت مرّ الصبر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
  وصيّرني يأسي من النّاس راجيا ... لحسن صنيع اللَّه من حيث لا أدري
  فقلت له: أعد، يرحمك اللَّه، هذين البيتين. فقال لي: ويلك أبا العتاهية! ما أسوأ أدبك وأقلّ عقلك! دخلت عليّ الحبس فما سلَّمت تسليم المسلم على المسلم، ولا سألت مسألة الحرّ للحرّ، ولا توجّعت توجّع المبتلى للمبتلى، حتى إذا سمعت بيتين / من الشعر الذي لا فضل فيك غيره، لم تصبر عن استعادتهما، ولم تقدّم قبل مسألتك عنهما عذرا لنفسك في طلبهما! فقلت: يا أخي إنّي دهشت لهذه الحال، فلا تعذلني واعذرني متفضّلا بذلك. فقال: أنا واللَّه أولى بالدّهش والحيرة منك؛ لأنك حبست في أن تقول شعرا به ارتفعت وبلغت، فإذا قلت أمّنت، وأنا مأخوذ بأن أدلّ على ابن رسول اللَّه ﷺ ليقتل أو أقتل دونه، وو اللَّه لا أدلّ عليه أبدا، والساعة يدعى بي فأقتل، فأيّنا أحقّ بالدّهش؟ فقلت له: أنت واللَّه أولى، سلَّمك اللَّه وكفاك، ولو علمت أنّ هذه حالك ما سألتك.
  قال: فلا نبخل عليك إذا، ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما. قال: فسألته من هو؟ فقال: أنا خاصّ داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد. ولم نلبث أن سمعنا صوت الأقفال، فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جرّه، ولبس ثوبا نظيفا كان
(١) في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (ج ١ ص ١٠٢): «أمر المهدي بحبسي ...».