المسألة الأولى [في قبح الاستهزاء ونسبته إلى الله ومعناه]
  بجواب واحد مقنع، فنقول: لاريب في أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وأنه لو فعله لقبح منه، وقد استوفينا الأدلة العقلية على ذلك في فاتحة الكتاب، ولاريب أيضاً أن القرآن من عند الله، وقد ثبت القطع بذلك، وإذا تقرر لك هذا فنقول: الاستهزاء المذكور لا يدل على ما تقوله المجبرة، ولا على ما يقوله الطاعنون في القرآن؛ لأن له في اللغة العربية محامل صحيحة، ومخارج صريحة، لا يجهلها إلا من ليس له في العلم نصيب.
  أحدها: أن الله تعالى نزل إمهالهم، وإجراء أحكام المسلمين في الدنيا عليهم مع ما ادخره لهم من أليم العقاب منزلة الاستهزاء بهم للمشابهة في الصورة، وهذا المعنى شائع عند العرب.
  قال الناصر #: الاستهزاء من الله بهم أنه ممهل لهم وغير معاجل لأخذهم، وأنه عالم بما سينالهم من عقابه وأليم عذابه على سوء أفعالهم، وذلك فمثل ما تعرفه العرب من تصرف معاني الكلام فيما بينهم، فلو أن رجلاً استهزأ برجل وسخر منه، واحتمل الآخر منه، ووكله إلى عقاب الله، وأخذه له بظلمه إياه، لجاز أن يقول قائل للمستهزئ: لا تظن أنك تستهزئ بفلان فإنه هو المستهزئ بك والساخر منك؛ لاحتماله، وتغافله عليك، وأخذه له بحقه منك بما أعده الله للمستهزئين الظالمين من العقوبة، والنكال، وسوء العاقبة؛ وكذلك لو كان لرجل عبد يستهزئ به، ويخالف أمره، فينهاه مولاه عن ذلك فلا ينتهي، لجاز أن يقول له: أهملتك لأعاقبك على فعلك بما تستحقه؛ وإنما حلمي عنك لأني لا أخاف أن تفوتني بجرمك.