تفسير قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم 29}
  احتج الآخرون بأن إيلام الحيوان محظور عقلاً، فلا يحل إيلامها إلا بدليل شرعي؛ إذ الانتفاع لا يحصل غالباً من دون إيلام، وقد ورد الشرع بجواز الانتفاع ببعضها بذبح وغيره فيقر حيث ورد، ولا نتجاوزه إلى غيره، وفي هذا جمع بين دلالة العقل والنقل.
  قالوا: والعمومات التي احتج بها الأولون ليست على عمومها لخروج كثير من المحرمات والعام المخصوص لا يكون حجة فيما بقي على ما مر سلمنا، فنقول: كما أنه قد تخصصت بالمضار كالسم وحق الغير وما ورد الشرع بتحريمه فكذلك تخص بإيلام الحيوان الذي قد قضى العقل بتحريمه، والتخصيص بالعقل جائز(١).
  وأما ما روي في قصة نوح # فلا حجة فيه علينا؛ لأنه خاص بشرعه، فلا يلزمنا إلا بدليل. والآثار المروية عن الصحابة ليست بحجة.
  والجواب: أنا لا نسلم أن العقل يقضي بقبح الانتفاع، بل يقضي بالإباحة، وأنها الأصل، بمعنى أنه لم يمنع منه، وإنما قضى بقبح الإيلام وهو غير الانتفاع؛ إذ لا ملازمة كلية بين الإيلام والانتفاع، ألا ترى أنه يمكننا الانتفاع بميت السمك والجراد من دون أن نؤلمها، ويمكننا أن ننتفع بالتجمل برباط الخيل ونحوها من دون إيلامها بأن لا ننتفع بها في غير التجمل، وكذلك ما أكلناه مما ذبحه الغير، فإنا ننتفع بأكله من دون أن نؤلمه، فثبت أن الإيلام والانتفاع أمران مفترقان.
  فإن قيل: هذا لو تم لكم فيما يمكن الانتفاع به من دون إيلامه
(١) كما مر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢٠}. تمت مؤلف.