ذكر المؤمن لأعماله الصالحة
  وقد مضت سنة عباد الله الصالحين من الأئمة وغيرهم بكتمان العبادة، وبالتحرز الشديد من إظهارها، وقد روي عن الهادي # أن بعض أصحابه اطلع على بعض من عبادة الهادي # فلما علم الهادي اطلاع الرجل على عبادته ومناجاته لربه وبكائه طيلة الليل انزعج، واستوثق الرجل على الكتمان إلى أن يموت، واستحلفه على ذلك، فلم يحدث الرجل بما رأى من عبادة الهادي # إلا بعد موته #.
  وما ذكرنا من أنه بإفشاء العمل الصالح وإظهاره يكتب له من عمل السر إلى عمل العلانية هو أقل الاحتمالات الخطيرة، وإلا فإنه يحتمل أن يذهب عمله باطلاً بالتحدث.
  وعلى هذا فالاحتياط هو في كتمان العمل، والتحرز من كشفه وإظهاره إلا لغرض صحيح من نحو ما ذكرنا سابقاً.
  فإن قيل: إذا مدح الإنسان بما ليس فيه، ودخل في نفسه شيء من السرور على عادة الطبيعة البشرية، مع أنه لا يريد أن يمدح بما ليس فيه ولا يرغب في ذلك، فهل عليه في ذلك الفرح ملام؟ وهل يدخل فيمن قال الله فيهم: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}[آل عمران: ١٨٨]؟
  يقال في الجواب: لا حرج عليه في ذلك، ولا يلحقه منه ملام ولا ذم، وذلك لأنه لا عمل له في حصول ذلك، ولا صدر منه سبب، فالمدح صدر من غيره بغير أمر منه ولا طلب ولا سبب، وحصول الفرح في نفسه ناتج عن الطبيعة البشرية، وليس في وسعه أن يتخلص من ذلك الطبع البشري، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٦].
  أما الذين نزلت في ذمهم الآية فإنهم - والله أعلم - رغبوا في المدح بما لم يفعلوا، وسعوا في حصوله وأرادوه؛ فإذا حصل ذلك فرحوا به، وإذا لم يحصل استاءوا وهم اليهود في أكثر الروايات.