قوله تعالى: {ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء}
  وأبيض، وأسمر وأصفر، وطويلا وقصيرا - ما ذمهم على معاصيهم، ولا عاقبهم على فعلهم، ولا حمدهم على إحسانهم، ولا على طاعتهم؛ إذ كان ذلك منه قضاء، كما لم يحمدهم ولم يعاقبهم على بياضهم وسوادهم، واختلاف ألوانهم؛ إذ ليس لهم فعل يذمون عليه، ولا يحمدون فيه؛ لأن المحمود مدخل في فعله، غير مخير(١) في نفسه؛ ولكن جعلهم سبحانه مخيرين في الطاعة والمعصية، ممكنين في الاستطاعة، وأبان لهم طريق النجاة، وأبان لهم طريق الهلكة، ثم قال: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينه وإن الله لسميع عليم}، فعاقبهم على اختيارهم للمعصية، وأثابهم على اختيارهم للطاعة.
  والشاهد على ما قلنا من تخييره لهم، وتركيبة الاستطاعة فيهم، وأنهم غير مضطرين ولا مقهورين - قول الله سبحانه: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين}، فأخبر سبحانه: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فلو كانوا مجبورين مقضيا عليهم - ما استحبوا شيئا، ولا قدروا من بعد أن هداهم يستحبوا العمى؛ هذا كتاب الله ø ينطق بخلاف ما قالت المجبرة، ومن ذلك ما قالت الجاهلية به مثل قول المجبرة، فسيبوا وبحروا وحموا(٢)، وكان هذا فعلهم في إبلهم وغنمهم، فإذا كان منهم رجل غائبا - نذر إن رده الله أن يسيب بعض إبله، وكذلك في الحام: إذا ضرب في إبلهم الجمل، حتى يضرب معه أولاد أولاده - خلوه، وقالوا: «قد حمى ظهره».
  فلما بعث الله محمدا ÷ أمرهم أن يأخذوا إبلهم وغنمهم التي قد أرسلوها، وكانت قد أضرت بالناس، تشرب مياههم، وتكثر ضرهم، فقالوا: يا محمد، إن هذا أمر أمرنا الله به، وقضاه علينا، فلا نستحل أخذها. فأكذبهم الله عز
(١) هكذا في النسخة المطبوعة، ولعل الجملةَ هي: «غَيْرُ مُجْبَرٍ في نفسه»؛ حتى يصح أن يكون علة لقوله: «إذ ليس لهم فِعْلٌ يُذَمُّونَ عليه، ولا يحمدون فيه»؛ تأمل.
(٢) إشارة إلى قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.