قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 14}
  لتلتئم عند الهجوع مطابقهما، وتطمئن لذلك علائقهما، وتريح من الحركة مدامعهما؛ ليقوى نظرهما، ويثقب بصرهما؛ ولو كان مكان سواد إطباقهما ناصعا ببياض نطاقهما - لقصرتا عن بلوغ مناظرهما، ولعجزتا عن تحديد إبصارهما، ولكثر إغماضهما، ولقل إيماضهما. ثم حجب عنهما سبحانه بأجفانهما الأذى، وأماط عنهما بأشفارهما القذى، فلما أحكمهما بالتقدير، وأتقنهما بالتدبير - غشاهما بالحاجبين، وأظل بالحاجبين ما استجن من العينين؛ لعلمه سبحانه بضرورة الناظرين، إلى ما ركب من الحاجبين، ثم جعل فيهما - من بعد إتقان تدبيرهما - شعرا مسودا ظاهرا عليهما؛ ليزيد سواده في قوة نظرهما عند استقبالهما؛ لبعد اعتمادهما، ولو لم يكونا بزينة الشعر مخصوصين، وكانا مما زينتا به محطوطين - لنقص من العينين نظرهما، ولتضوع في أرجائهما نورهما، ولعشي عن مقر التحقيق بصرهما. ثم مثل بينهما خالقهما أنفا مستروحا لأنفاسه، موقوفا لرجعه واحتباسه، فأقام رسم حده، وأحسن التصوير في قده، وجعله هواء، معتدلا سواء، ولولا ما دبر فيه، وركبه من الإحكام عليه - لم يؤد - بلطيف اعتباره، ودقيق اختباره - المحسوس إلى قراره، ولعجز عن بلوغ مدى الاسترواح، ومستقر غاية الأرواح، فجعله سبحانه من أصليته ناشزا، وجعل في سراته(١) حاجزا؛ ليوقف رجع الأنفاس، بين العجلة والاحتباس. قسمه بحكمته؛ لتكامل لطيف نعمته، ثم شق تحت وتر أرنبته، مسلك ما قدر من أغذيته، وخلق فيه لسانا مؤديا عن منطقه ولفظه، بين طبقتين خلقهما لحفظه، فجعله لحما، وأجرى فيه عروقا ودما، ولو جعله عصبا قاسيا، أو فطره عظما جاسيا(٢)، لكان ذلك له من الترجمة مانعا، وعن الجولان بالحركات قاطعا؛
(١) قال في القاموس المحيط: «والسَّراةُ: أعْلَى كلِّ شيءٍ.».
(٢) قال في القاموس المحيط: «جَسا، كدَعا، جُسُوًّا صَلُبَ».