باب القول في أن الجلوس في المسجد اعتكاف
  فخرج عليٌّ من عند فاطمة واثقاً بالله، حسن الظن بالله، فاستقرض ديناراً فأُقرضه، فبينا الدينار في يد علي أراد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فعرض له المقداد في يوم شديد الحر، قد لوحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته، فلما رآه علي أنكر شأنه، فقال: (يا مقداد، ما أزعجك في هذه الساعة من رحلك؟)، فقال: يا أبا الحسن، خلّ سبيلي، ولا تسألني عما ورائي، فقال له: (يا أخي، لا يسعني أن تجاوزني حتى أعلم علمك)، فقال: يا أبا الحسن، رغبة إلى الله وإليك أن تخلي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي، فقال: (يا أخي، ليسؤك(١) أن تكتمني حالك)، فقال له: يا أبا الحسن، أما إذا أبيت، فالذي أكرم محمداً بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أزعجني من رحلي إلا الجهد، ولقد تركت عيالي يتضاغون جوعاً، فلما سمعت العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكباً رأسي، فهذه حالي.
  فهملت عينا علي باكياً حتى بلت دموعه لحيته، فقال: (أحلف بالذي حلفتَ به ما أزعجني من رحلي غير الذي أزعجك من رحلك، ولقد اقترضتُ ديناراً فهاكه، فقد آثرتك به على نفسي). فدفع إليه الدينار.
  ثم رجع حتى دخل مسجد رسول الله ÷، وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلما قضى رسول الله ÷ صلاة المغرب، مَرَّ بعلي في الصف الأول، فغمزه برجله، فقام علي متبعاً حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلم، فرد رسول الله ÷ السلام.
  فقال: «يا أبا الحسن، هل عندك شيء تعشينا به؟ فنميل معك» فمكث مطرقاً لا يحيل جواباً، حياء من رسول الله ÷، وهو يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه، وأين وجهه ÷. وقد كان أوحى الله إلى نبيه أن يتعشى تلك الليلة عند علي، فلما نظر رسول الله ÷ إلى سكوته، قال له: «يا
(١) تسرّك. (من المناقب الطبعة الثانية ج ١ ص ٢٢٨).