التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين 64 ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم 65 ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون 66}

صفحة 2027 - الجزء 3

  أمرهم شتت اللَّه ذلك بسوء أفعالهم، بأن يخلي بينهم وبين أعدائهم كما فعله بخت نَصَّر وغيره، على ما قص اللَّه تعالى في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}. وقيل: أطفأها اللَّه بإحكام العداوة بينهم حتى يشغلهم ذلك عن محاربة المسلمين، عن أبي مسلم، وقيل: بنصر اللَّه المؤمنين، عن أبي علي «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا» يعني اليهود يعملون الفساد في الأرض، وقيل: فسادهم بما يظهر بينهم من الكفر والظلم ومحاربة النبي ÷، وقيل: مجتهدون في إبطال أمر محمد، ÷ «وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» أي لا يريد إكرامهم، ولا يرضى أفعالهم «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمنُوا» صدقوا بمحمد وما جاء به «وَاتَّقَوْا» الكفر والمعاصي «لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ» أي سترنا كفرهم إذا آمنوا بأن يغفر ذلك لهم فلا يأخذهم به، ويستر سيئاتهم بالحسنات، وهي التوبة والإيمان «وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» أي سندخلهم، وإنما جاء بلفظ الماضي؛ لأنه مقرر كتقرير الماضي «وَلَوْ أَنَّهُمْ» يعني أهل الكتاب من اليهود والنصارى «أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ» يعني عملوا بما فيهما، بأن أقاموها نصب أعينهم، فلم يتركوا حدودها وما فيها من الإيمان بنبينا محمد، أي لو اتبعوا النبي ÷ وأطاعوه كما هو في التوراة، وقيل: إقامة التوراة الاستقامة عليها دون التحريف، ولم يرد العمل بجميع ما فيه؛ لأنه منسوخ، فالمراد ما ذكرنا «وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِنْ رَبّهِمْ» قيل: القرآن، عن ابن عباسٍ وجماعة، وهو قول أبي علي، وقيل: كتب الأنبياء، وقيل: [كلَّ ما] أمر اللَّه به من أمور الدين «لَأَكَلُوا» يعني لتركوا في ديارهم ولم يقتلوا، فكانوا يتمتعون بالنعم وما رزقهم اللَّه، وخص الأكل لأنه معظم الانتفاع «مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» قيل: من فوقهم المطر، بأن يرسل السماء عليهم مدرارًا «وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» ما يخرج من الأرض من النبات والثمار، وبركات اللَّه تعالى، عن ابن عباس وقتادة، وقيل: هو جواب اللَّه إياهم حيث بَخَّلُوا اللَّه بقولهم: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»، وقيل: المراد به التوسعة كما يقال: هو في الخير من قرنه إلى قدمه، عن الفراء، وقيل: لما كفروا بالنبي # أخذهم بالسنين «مِنْهِ» أي من أهل الكتاب «أُمَّةٌ» جماعة «مُقْتَصِدَةٌ» مستقيمة على طريقتها مؤمنة بعيسى وبمحمد كعبد اللَّه بن سلام وغيره من اليهود، وبحيرا وسلمان من النصارى، وقيل: مقتصدة في دينها لا يضيفون البخل إليه، ويعترفون بأنه