التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون 61 الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم 62 ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون 63 وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون 64 فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون 65 ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون 66 أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون 67 ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين 68 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69}

صفحة 5592 - الجزء 8

  ينفع ولا يضر؟! «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ» أي: يوسع ويضيق بحسب المصلحة «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ» يعلم مصالح عباده فيرزقهم فيها بحسبها، وقيل: إنما حث بذكر الرزق على الهجرة؛ لئلا يتخلفوا خوف العيلة، فييّن أنه الرازق له في بلده وفي الغربة «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً» وهو المطر «فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا» يعني: إن سألتهم من المسبب لأرزاق الخلق من ماء المطر وينبت النبات ويخرج الأثمار «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» منشئ ذلك كله، وإنما قال: «فَأَحْيَا بِهِ» لأنه أجرى العادة أنه ينبت النبات بالماء والمطر ولولا هذه العادة لجاز أن يخرج النبات من غير ماء ومطر «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» قيل: قل شكرًا لله على نعمه وإن جهل أكثرهم نعمه عليهم، وقيل: قل الحمد لله على ما بصرنا من دينه وهدانا إلى معرفة توحيده وعدله والتمسك بعبادته، وقيل: قل الحمد لله على علمك بما تقول؛ فإن أكثرهم يقولون ولا يعلمون.

  ومتى قيل: لِمَ قال: «لاَ يَعْقِلُونَ» وهم عقلاء؟

  قلنا: قيل: معناه لا يعلمون، وقيل: لم يستعملوا عقولهم فلم ينتفعوا بها، فكأنه لا عقل لهم.

  «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» يعني التمتع بالحياة بمنزلة اللَّهْو واللعب لقصر مدتها وسرعة تَقَضِّيها «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ» يعني: هي الحياة الدائمة، وإنما وصفها بالحيوان مبالغة لاستجماعها شرائط الملاذ من النعم والسرور والأمن والدوام، وقيل: إن الدار الآخرة لهي الحيوان أي: دار الحيوان الدائم البقاء «لَوْ كَانوا يَعْلَمُونَ» أي: لو علموا ذلك ما اختاروا الدنيا على الآخرة. «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ» وخافوا الغرق «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» أي: يخلصون له الدعوة، ولا يدعون غيره عند الضرورة «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَينَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا» قيل: هو تهديد، أي: دعهم وما اختاروا من الكفر والتمتع. وقيل: هي لام العاقبة، أي: كان عاقبة إخلاص الله إياهم أن كفروا بنعمه وتمتعوا بالدنيا «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» عند نزول العذاب بهم قبح ما كانوا عليه «أَوَلَمْ يَرَوا» قيل: أولم يعلموا،