التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون 127 ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم 128 وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون 129}

صفحة 2406 - الجزء 3

  «يَحْشُرُهُمْ» يجمعهم، قيل: الكفار، وقيل: من تقدم ذكرهم، وقيل جميع الخلق، عن الأصم، وقيل: الإنس والجن؛ لأنه يتعقبه حديثهم «يَا مَعشَرَ» قيل: فيه حذف دل الكلام عليه، وتقديره: ويقول يا معشر «الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» قيل: استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، ويجوز في تقديره: قد استكثرتم منهم بالإغواء والإضلال، ومعناه: اتبعتم ضُلَّال الإنس فتبعوكم؛ لأنهم لا يستكثر من المتقين؛ لأنهم لا يتبعونهم فصار كالمعلوم أن المراد به الضُّلَّال، والتوبيخ توجه إلى الفريقين؛ لأن الجن دعوهم إلى الضلال، ثم أجابوا فوقف الاستكثار بالشركة في الضلال، فكأنه قيل: ما أكثر ما ضللتم منهم، وما أكثر ما تبعوكم في الضلال.

  ومتى قيل: فلماذا خاطب الجن دون الإنس؟

  قلنا: لوجهين: أحدهما: زيادة في الاستخفاف [إذْ] لم يكن لهم أنفة حتى صاروا تبعًا للجن، كمن رأى عالمًا مع قوم فسقة فيخاطبهم ولا يخاطبه استخفافًا به، وقيل: لأنهم اجتهدوا في الإضلال حتى أضلوهم.

  «وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ» أي: مُتَّبِعُوهم ومن أطاعهم «رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ» أي: انتفع بعضنا ببعض بما حصل له من السرورية، وقيل: تعاونا على ما كنا عليه من الضلال في الدنيا، عن الأصم.

  ومتى قيل: أي استمتاع للجن بالإنس؟

  قلنا: فيه أقوال:

  الأول: تزيين من الأمور التي يهوونها حتى يسهل عليهم فعلها.

  والثاني: لاتباعهم إياهم ولا سرور ممن يهوى يريد من غيره شيئًا ويدعوه إليه فيجيبه ويتبعه.

  الثالث: أنهم كانوا يعوذون بهم كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} عن الحسن وابن جريج، والاستعاذة بهم تعظيم لهم واعتقاد أنهم يقدرون على النفع والضر، والخير والشر، والصحة والمرض، والحب والبغض، وقد [كان الرجل إذا سافر وخاف الجن في سلوك طريق قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه]، فيكون في جوار منهم.