التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين 94}

صفحة 499 - الجزء 1

  استهزأتم بهم وزعمتم أنكم بالحق أولى منهم، والناس خاص، وقيل: هو عام لقوله حكاية عنهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} «فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ» أي سلوه وأريدوه «إِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ» فيما زعمتم وادعيتم أن ذلك لكم.

  ويقال: قوله «فَتَمَنَّوْا» أمر أم لا؟

  قلنا: هو تَحَدٍّ، وليس بأمر، فتحداهم بذلك، وقيل: احتجاج عليهم، ودعا إلى المباهلة، وروي عن النبي ÷ أنه قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرجوا إلى المباهلة لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالاً. فلما لم يتمنوا الموت افتضحوا كما افتضح النصارى حين أحجموا عن المباهلة وظهر الحق».

  ويقال: لم كره للمؤمن تمني الموت؟

  قلنا: قال القاضي: لأنه يخاف التقصير فيما أمر، ويرجو في البقاء التلافي، ولأنه لا يأمن إقدامه على كبيرة، أو ترك واجب، فأما إذا كان على ثقة، فيجوز أن يتمنى؛ ألا ترى أن أمير المؤمنين # كيف كان يتمنى، ويقول: ما أبالي سقط الموت عَلَيَّ، أم سقطت على الموت. وقال معاذ ¥ لما نزل به الطاعون: مرحبًا بزائر جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. وقيل: لأنه لا يعلم المصالح، فيجوز أن يتمنى الموت لشرط المصلحة، وقد روي عن النبيّ ÷: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل: اللَّهم أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» ولأن ذلك يدل على جزع منه، واللَّه تعالى أمره بالصبر وتفويض الأمر إليه، وقيل: يجوز ذلك عقلاً، إلا أن الشرع منع منه، والصحيح أن العقل والشرع فيه سواء، وأنه لا يجوز إلا بشرط المصلحة.