التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين 76 وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين 77 قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون 78 فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم 79 وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون 80 فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين 81 وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون 82}

صفحة 5534 - الجزء 8

  وإن كان أصله في اللغة الطلب، فكان منقولاً في الشرع إلى من يطلب شيئًا ليس له ذلك.

  وتدل أن قارون كان أوتي مالاً كثيرًا.

  وتدل أنه كان حلَالاً أضافه إلى نفسه فقال: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ}.

  ومتى قيل: كيف تجتمع تلك الأموال العظيمة من الحلال؟

  قلنا: لذلك وجوه:

  منها: أن يظفر بكنوز من أهل الجاهلية.

  ومنها: أن يرث.

  ومنها: أن يكون له حَشَمه، فيتفق له من التجارات والزراعات ما يجتمع به المال.

  ومنها: أن يتفق له من التكسب.

  ومنها: أن يحصل له من الغنائم.

  ويجوز أن تجتمع من جميع هذه الوجوه، وقد روي أن فرعون كان جعل إليه إمارة بني إسرائيل، فلعله تمكن من التجارات والزراعات، وغير ذلك من الأسباب.

  وتدل على أن الفرح بالدنيا على سبيل البطر والتكبر قبيح، وأن الواجب الفرح بما يؤديه إلى الجنة.

  وتدل أن نصيب المرء في دنياه ما أنفقه في وجوه البر، لا ما تَمَسَّكَ به حتى مات، فإن ذلك نصيب الورثة.

  ويدل قوله: {لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أنه لا يريد الفساد، ولو كان خَلْقَهُ لأراده، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والإرادة.

  وتدل أن إضافة العلم إلى نفسه على وجه يتفرد به يقبح؛ بل يضاف أولاً إليه تعالى؛ لأنه خالق الضروري ومسببا للمكتسب بوجوه الأسباب.

  وتدل على أنه لا ينبغي أن يُغْتَرَّ بزينة أهل الدنيا إذا عاقبتها العقاب، وينبغي أن يزجر من يغتر به ويدعو إلى طاعة الله تعالى والرضا بما آتاه الله.

  ويدل قوله: {فَخَسَفْنَا} أن ذلك الخسف كان عقوبة.