التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {الم 1 أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 2 ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 3 أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون 4 من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم 5 ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين 6 والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون 7}

صفحة 5544 - الجزء 8

  قلنا: أصل التكليف هو التعريض للثواب ثم الامتحان بعده يكون لطفًا واعتبارًا، وقد ينضم إليه العوض فيخرج عن حد الظلم والعبث.

  ومتى قيل: بعد الامتحان بِمَ يعلم الصادق والكاذب؟

  قلنا: لأن من تصور أحوال الآخرة صبر على شدائد الدنيا، واختار الآخرة، فظهر عند ذلك الصادق في إيمانه والكاذب.

  ومتى قيل: فما معنى «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» وهو عالم لم يزل، ولا يزال؟

  قلنا: معناه ليظهر معلومه لغيره، وقيل: فليميزن اللَّه، وقيل: فليعلمن الله موجودًا، وكان ذلك قَبْلُ معلومًا أنه سيوجد وإنما يعلمه موجودًا في الحال، وقيل:

  ليجازيهم بما يعلم منهم.

  «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ» يعني الكفر والمعاصي «أَنْ يَسْبِقُونَا» أي: يفوتونا فوت السابق لغيره، ويعجزونا فلا نقدر على أخذهم والانتقام منهم «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» أي: ليس حكمنا حكمهم «مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ» قيل: من يطمع في ثواب الله، عن سعيد بن جبير. ولما كان الثواب يرجى من جهته كان رجاء ذلك رجاء لقائه توسعًا، وقيل: من كان يخشى البعث، عن ابن عباس، ومقاتل. ولا يقال: اللقاء بمعنى الرؤية؛ لأن اللقاء في اللغة ليس من الرؤية في شيء، قال تعالى: {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}⁣[الحاقة: ٢٠]، ويقال: لقيت من فلان الخير والشر، وقيل: من كان يعلم ويؤمن بلقاء الله إياه، والأول الوجه «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ» وقته الموعود للجزاء والبعث «لَآتٍ» كائن لا محالة «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالكم «الْعَلِيمُ» بما في ضمائركم «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ» قيل: من لقي الجهد في طاعة الله فذلك حظه الذي ينتفع به، والمجاهدة مفاعلة فيقتضي جُهْدَانًا: جهد الشيطان في إضلاله، وجهد العدو في إهلاكه، وجهد النفس في اتباع الشهوات، وقيل: قد يستعمل المفاعلة، وإن كان من فعل واحد، وقيل: من جاهد في قتال أعداء الله فإنما يعمل لنفسه؛ لأنه إن غلب فله الظفر والغنيمة