التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون 56 كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون 57 والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين 58 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون 59 وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم 60}

صفحة 5589 - الجزء 8

  ثم بَيَّنَ وصف العاملين فقال سبحانه: «الَّذِينَ صَبَرُوا» على مشاق التكليف، وترك المحرمات، وأداء الواجبات، واحتمال الأذى من الأعداء، وفراق الوطن «وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكلُونَ» بفضله قنعون دون أسباب الدنيا، وقيل: يتوكلون عليه في أرزاقهم وجهاد أعدائهم، وقيل: وصفهم بالصبر على مخالفة الشيطان، والثقة بفضل الله.

  ولما بَيَّنَ حال [ممن يؤذى في] الدين حَثًّا على الهجرة بيّن حال الرزق، فقال سبحانه: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ» حيوان يدب «لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا» للادخار، عن الحسن. وقيل: لا تطيق حمل رزقها، عن مجاهد. وقيل: لا تدخرها لغد [وقيل]: لا تدخر شيئًا إلا الإنسان والفأرة والنملة «اللَّهُ يَرْزُقُهَا وِإيَّاكُمْ» يعني: إن خفتم فراق الوطن لأجل الرزق والله يرزق الدواب العاجزة، فكيف لا يرزق من فارق بلده؟ فكأنه قال تعالى: هاجروا واعبدوني، فأنا أرزقكم أينما كنتم. وقيل: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» أينما توجهت فالله يرزقها كذلك يرزقكم إذا هاجرتم، وقيل: يرزقها يومًا بيوم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالكم: إنا نخشى العِيلَةَ في فراق أوطاننا «الْعَلِيمُ» بما في قلوبكم، وقيل: العليم بكم، حيثما كنتم يأتيكم رزقكم.

  · الأحكام: تدل الآية على وجوب الهجرة إذا خاف الفتنة في الدين.

  وتدل أنه ينبغي أن يشتغل بعبادة ربه فإذا لم يمكنه في أرض خرج إلى أرض أخرى.

  وتدل أن كل نفس سوى الله تعالى تموت وتبعث يوم القيامة.

  وتدل أن الثواب جزاء لأعمالهم، خلاف من يقول: إنه تَفَضُّل.

  وتدل على أنه تعالى الرازق لجميع الحيوانات، ولا شبهة أن الأرزاق كلها من جهة الله تعالى؛ لأنها أجسام وأعراض لا يقدر عليها غيره، وما دام يبقى على أصل