التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون 56 كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون 57 والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين 58 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون 59 وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم 60}

صفحة 5588 - الجزء 8

  · المعنى: ثم بَيَّنَ تعالى أنه لا عذر في ترك الطاعة لا بالمكان وبالرزق، فقال سبحانه: قُلْ يا محمد «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» قيل: أمر اللَّه تعالى المؤمنين إذا كانوا في بلد لا يلتئم لهم أمر دينهم أن يُنْقَلُوا إلى غيرها؛ لئلا يقعوا في فتنة، وقوله: «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» تعليل الأمر الذي لأجله وجب مفارقة الوطن، يعني إذا تعذرت العبادة في موضع فانقلوا عنها واعبدون في غيرها، وقيل: إذا عمل في أمري بالمعصية فاخرجوا منها إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ، عن سعيد بن جبير. وقيل: إذا أُمِرْتُمْ بالمعاصي فاهربوا فإن أَرْضِي وَاسِعَةٌ، عن عطاء، ومجاهد، وابن زيد. وقيل: أَرْضِي وَاسِعَةٌ بما أُخْرِجُ منها من الرزق لكم، عن مطرف. وقيل: «أَرْضِي وَاسِعَةٌ» أي: أرض الجنة فاعبدوني لتنالوها، عن أبي علي وجماعة، وأكثر أهل التأويل على أن المراد به أرض الدنيا. «فَإِيَّايَ فَاعبُدونِ» قيل: أخلصوا في عبادتي ولا تطيعوا أحدًا في معصيتي «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ» يعني: أن كل حي يموت يناله الموت بأي أرض كان، فلا تقيموا بأرض الشرك فأنتم لا تخلدون فيها «ثُمَّ إِلَينَا تُرْجَعُونَ» أي: إلى حكمنا يوم القيامة بأن نحييها للجزاء، وإذا كان هكذا فبادروا إلى الطاعة والهجرة، وقيل: بين أن دار الدنيا دار نُقْلَةٍ، فلا نختارها على دار الآخرة التي إليها المرجع وفيها المقام أبدًا.

  ثم بَيَّنَ تعالى أنهم لو تركوا دارهم في الدنيا لله يعطيهم خيرًا منها، فقال سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا» أي: ننزلهم من الجنة علالي، وقيل: قصورًا «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا» أي: من تحت الغرف «الأَنهَارُ» أي: الماء في الأنهار «خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» أي: نعم الجزاء لمن عمل بطاعة الله.