قوله تعالى: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور 15 فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل 16 ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور 17 وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين 18 فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور 19}
  والشام قرى متصلة، وقيل: قرى بين المدينة والشام، عن ابن عباس. وقيل: هو السَّرَوات، عن مجاهد. وقيل: هي قرى صنعاء، عن وهب. «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ» أي: جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرًا مقدرًا من منزل إلى منزل، وقرية إلى قرية، فلا ينزلون إلا في قرى، ولا يغدون إلا في قرى لراحة المسافر، أشار تعالى إلى تكامل نعمه عليهم في السفر، كما هي في الحضر «سِيرُوا» أي: قلنا لهم: سيروا، وهي إباحة وليس بِأَمْرٍ «فِيهَا» أي: في القرى «لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ» يعني: أيّ وقت شئتم من ليل أو نهار، «آمِنِينَ» لا تخافون جوعًا ولا عطشًا ولا ظلمًا من أحد، ولا تحتاجون إلى زاد. فبطروا وبغوا وقالوا: لو كان حتى ثمارنا أبعد مما هي لكان أجدر أن نشتهيه، وقيل: أرادوا التبعد ليخرجوا في الزينة والعدة، وقيل: قالوا تكذيبًا لنعمه تعالى «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَينَ أَسْفَارِنَا» والأسفار جمع سَفَر، أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات لنركب الرواحل ونتزود الزاد، ففعل بهم ذلك «وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ» بالكفر والعصيان، وقيل: ظالمين لأنفسهم باخسين حظها بما سألوا وما فوتوا من النعم «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» قيل: عبرة وعظة لمن يقف على حالهم وزجرًا عن مثل أفعالهم، وقيل: أهلكناهم وبقيت أخبارهم يتحدث بها الناس، فأما أعيانهم أجسام لا تصير حديثًا؛ لأن الحديث عرض، وقيل: جعلناهم بحيث يضرب بهم المثل فيقال: (تفرقوا أيدي سبأ)، قال كُثير:
  أَيادِيْ سَبًا يَا عَزّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُم ... فَلم يَحْلُ بِالْعَينَينِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ
  وقال آخر:
  مِنْ صَادِرٍ أو واردٍ أَيْدِي سَبا
  «وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» أي: فرقناهم كل تفريق، قيل: أهلكناهم بعذاب الاستئصال، فتمزقت أجسادهم، وقيل: استأصل نعيمهم حتى ألجأهم إلى التفريق في العالم، فتشتتوا أعظم التشتت، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما أوس