التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين 31 قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين 32 وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون 33 وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون 34 وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين 35 قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون 36}

صفحة 5811 - الجزء 8

  مَنْ ينظر إليها بعين الاعتبار، وتفكر في أمر الآخرة، واتبع أمر ربه، وترك زينة الدنيا.

  ثم بَيَّنَ ما دعوهم إليه، فقال سبحانه: «إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا» أشباهًا «وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ»، في (أسروا) قولان: أحدهما: أخفوا، والثاني: أظهروا، وهو من الأضداد، فمن قال: أخفوا، اختلفوا، فقيل: أخفوا الندامة في أنفسهم خوف الفضيحة، وقيل: الرؤساء أخفوا الندامة عن الأتباع، وقيل: أخفوا؛ لأنهم علموا أنه لا فائدة في إظهاره. ومن قال: أظهروا، اختلفوا، قيل: أظهر الأتباع الندامة على اتِّبَاعِهِم، وأظهر المتبوعون الندامة على دعائهم، وقيل: لما علموا أنهم مأخوذون به أظهروا الندامة، هذا على إضلاله، وذلك على ضلاله، وقيل: أقبل بعضهم على بعض يلومه ويظهر ندمه.

  ومتى قيل: إذا كان في الآخرة لا يكذبون فكيف قالوا: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ

  قلنا: عند أبي هاشم وأصحابه أنه صدق لجواز أنه لولا دعاؤهم لآمنوا، كما نقول في وسوسة الشيطان، فأما عند أبي علي أنهم لو علم الله أن دعاءهم مفسدة لمنعهم، فعلى هذا قيل: في الآية إضمار لولا طاعتنا إياكم، وتقربنا إليكم فيما أمرتمونا به لكنا مؤمنين، وهذا صِدْقٌ؛ لأنهم تقربوا بكفرهم إلى رؤسائهم، عن أبي علي. وقيل: أخبروا عن ظنهم وذلك صِدْقٌ؛ لأنهم قالوا فيما يظن، عن علي بن عيسى. «لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ» أي: عاينوه «وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا» يعني: تغل أيديهم إلى أعناقهم، وذلك نوع عذاب «هَلْ يُجْزَوْنَ» بما فعل بهم «إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» من الكفر والضلال «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ» أي: من مُخوِّف «إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا» رؤساؤها وأغنياؤها الَّذِينَ بطروا «إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ» وفي هذا تصديق للمستضعفين، وأن الرؤساء كفروا أولاً، وترفعوا عن اتباع الرسل، ثم تبعهم العوام، وأن الأنبياء كانوا ممتحنين بالأغنياء.

  ثم بَيَّنَ أنهم رأوا لأنفسهم فضلاً حيث اختصوا بنعم الدنيا، فقال: «وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا» ولو لم يرض بما نحن عليه من الدين ما أعطانا ذلك «وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» كما تقولون من البعث، وقيل: لا يعذبنا أو لو ردنا إلى الآخرة لأعطانا مثل ما أعطانا في الدنيا من النعم «قُلْ» يا محمد مجيبًا: «إِنَّ رَبّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ» أي: يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء بحسب المصلحة «أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»