التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب 48 قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد 49 قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب 50 ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب 51 وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد 52 وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد 53 وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب 54}

صفحة 5822 - الجزء 8

  · المعنى: ثم أمر بمحاجة القوم وإنذارهم، فقال سبحانه: «قُلْ» يا محمد: «إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقّ» أي: يرمي بالوحي بأنْ ينزله من السماء إلى الأنبياء «عَلَّامُ الْغُيُوبِ» مبالغة في كونه عالمًا، ولأنه عالم لذاته، ومعلوماته لا تتناهى، ويعلم كل شيء، ولا يحتاج في كونه كذلك إلى شيء «قُلْ» يا محمد بعد إقامة الحجة عليهم: «جَاء الْحَقُّ» وهو القرآن والإسلام، وقيل: السيف «وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» قيل: ذهب الباطل، فلم يبق له مع الحق ثبات ولا ظهور لزوال شبههم وظهور حجته، فلا يبدئ بها ولا يعيد، وهذا على عادة العرب يقولون للمقهور العاجز عن الجواب: ما تُمِرُّ وما تُحْلَى، وما تبدئ وما تعيد، ويقولون للشيء إذا تلاشى فلا يُرْجَى عوده، قال الشاعر:

  أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبيِدُ ... فَالْيَوْمَ لاَيُبْدِي ولا يُعِيدُ

  كأنه قيل: لا يقوم دينهم في بدو ولا عود في معنى قول أبي مسلم، وتقدير الكلام: يقول الجن تعلم الغيب وقد جاء الحق فلا ثبات للباطل ولا قوام، وهو دين المشركين، ونظير ذلك قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}⁣[الأنبياء: ١٨] وقيل: معناه: إن أكثرتم اللجاج ونصرتم الباطل لم ينفعكم؛ لأنه جاء الحق وزهق الباطل فمايبدئ وما يعيد، قيل: الباطل: إبليس، أي: لم يخلق شيئًا ولا يعيده؛ بل الإله المبدئ للأشياء المعيد لها بعد الإفناء، عن قتادة. وقيل: الباطل كل معبود دون الله، يعني: لا يخلق شيئًا ابتداء ولا يعيد، وقيل: كل معبود دون الله لا يبدي لحزبه خيرًا في الدنيا ولا يعيد بخير في الآخرة، عن الحسن، و [روي عن] ابن مسعود [أنه]، قال: دخل رسول اللَّه ÷ مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود معه، ويقول: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا»، «جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ». «قُلْ» يا محمد لهم إذا نسبوك إلى الضلال وترك دين الآباء: «إِنْ ضَلَلْتُ» كما تزعمون «فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي» أي: أوخذ بذلك دونكم «وَإِنِ اهْتَدَيْتُ» فبفعل ربي حيث أوحى إليَّ، فله المنة دون الخلق «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالنا «قَرِيبٌ» منا لا يخفى عليه المحق