التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب 48 قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد 49 قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب 50 ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب 51 وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد 52 وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد 53 وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب 54}

صفحة 5824 - الجزء 8

  اختلفوا، قيل: يرمون محمدا بالظنون من غير يقين، ذلك قولهم: هو ساحر، هو شاعر، عن مجاهد. وقيل: ردوا قوله بما لا حقيقة له من تمويههم به، وقيل: هو قولهم: لا جنة ولا نار ولا بعث، عن قتادة. يعني: يقولون ذلك ظنًا لا يقينًا، فأما من ضم الباء فمعناه: أن هَؤُلَاءِ كانت علماؤهم وقراؤهم (يقذفون) أي: يرمونهم بشبهات وترهات، ويوردون عليهم ما يظلمونهم بها، كما يفعله أهل البدع في زماننا هذا، وقذف الغيب من مكان بعيد عبارة عن الكلام الذي يقوله الجاهل جزافًا من غير تحقيق. وقيل: كانوا يرجمون بالظنون الكاذبة ما لم تقم به حجة، فذلك رميهم بالغيب، عن الزجاج. «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ» أي: منعوا عن مشتهياتهم، قيل: بالموت الذي حل بهم كما حل بأمثالهم، عن أبي مسلم. وقيل: منعوا من كل مشتهى، فيخلق الله تعالى فيهم النفار، فلا يدركون شيئًا إلا ويتألمون به. وقيل: حيل بينهم وبين نعيم الجنة، عن أبي علي. وقيل: مشتهياتهم التوبة والإيمان أو الرد إلى الدنيا وقد منعوا منه. وقيل: رفع العذاب عنهم «كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ [مِنْ قَبْلُ]» أهل دينهم وموافقيهم من الأمم الماضية حتى لم تقبل منهم توبة وقت اليأس ورؤية العذاب. وقيل: يعذبهم بأنواع العذاب كما فعل بأمثالهم من الكفار. [و] قيل: ينزل عليهم عذاب الدنيا بالقتل والسيف كما فعل بأولئك.

  ثم بَيَّنَ لأيّ شيء فعل ذلك بهم، فقال سبحانه: «إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» أي: لم يكونوا في دينهم على شيء؛ بل كانوا شاكين، وهكذا كُلُّ كفر وبدعة.

  · الأحكام: يدل قوله: {جَاءَ الْحَقُّ} أن الباطل لا ثبات له مع الحق.

  ويدل قوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} أن الضلال ليس من فعل الله تعالى، ولا خلقه وإرادته؛ لأنه لو كان كذلك لكان إضافته إليه أولى، فأما إضافة الهدى إليه فمن حيث كان بهدايته وتوفيقه وألطافه وآلائه وأمره، وذلك يدل على صحة مذهب العدل وبطلان الجبر.

  ويدل قوله: {وَقَالُوا آمَنَّا} أن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع؛ لأنه لا تكليف، وأكد ذلك بقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، وكل ذلك حث على التوبة قبل الفوت.