التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {حم 1 تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم 2 غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير 3 ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد 4 كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب 5 وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار 6}

صفحة 6105 - الجزء 8

  · اللغة، وإنما نزل به مُنْزِلُهُ من الملائكة، فنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى الملك، ويأتي به الملك إلى الرسول، فليس هو تعالى في موضع حتى يقال: إنه تعالى أنزله من ذلك الموضع؛ لأن ذلك صفة الأجسام، والله الذي تحق له العبادة «الْعَزِيزِ» القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء، فهو قادر لذاته لم يَزَلْ ولا يزال، [لا يجوز عليه العجز، قادر على كل مقدور، «الْعَلِيمِ» بجميع الأشياء لذاته لم يزل ولا يزال]، يعني: لما كان قادرًا عالمًا أنزله كما أراد معجزًا بحسب المصالح «غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ» لمن لم يقل: لا إله إلا الله «ذِي الطَّوْلِ» ذي الفضل على من يقول: لا إله إلا الله، عن ابن عباس. وقيل: غافر ذنب المذنبين بالتوبة، أو طاعة أعظم منها، وقابل توب التائبين، شديد العقاب على المُصِرِّينَ، عن أبي علي. «ذِي الطَّوْلِ» قيل: ذي النعم، عن ابن عباس. وقيل: ذي الفضل على المؤمن، عن الحسن، وقتادة. وقيل: ذي المن، عن الضحاك. وقيل: ذي السعة، عن السدي. وقيل: ذي القدرة، وقيل: إنما ذكر «ذِي الطَّوْلِ» عقيب قوله: «شَدِيدِ الْعِقَابِ» ليعلم أن العاصي أُتِيَ في هلاكه مِنْ قِبَل نفسه، لا من قبل الله، وإلا فنعمه سابغة عليه دينًا ودنيا «لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ» ومن هو الموصوف بهذه الصفات دون غيره «إِلَيهِ الْمَصِيرُ» المرجع للجزاء، وإنما جمع في هذه الصفات ليكون العبد مترددًا بين الرجاء والخوف «مَا يُجَادِلُ» أي: يخاصم «فِي آيَاتِ اللَّهِ» قيل: يتلقى القرآن بالإنكار والرد، وقيل: في جميع حججه ودلائله «إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ» قيل: تصرفهم في البلاد للتجارات، وبقاؤهم آمنين سالمين مع كفرهم، فإنه أمهلهم، ولم يهملهم.

  ثم ذكر حال الأمم عظة له، فقال سبحانه: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ» أي: قصدوه بالتكذيب والمخالفة والقتال «لِيَأْخُذُوهُ»