التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 217}

صفحة 873 - الجزء 1

  وتدل على أن الكفر بعضه يكون أكبر من بعض.

  وتدل على أن للوقت والبقاع تأثيرًا في كبر المعصية؛ ولذلك قلنا: الزنا في المسجد أعظم، وربما يبلغ درجة الكفر إذا قارن الاستخفاف بالدين.

  وتدل على أن في [عمل] الجوارح ما يكون كفرًا، حيث بين إن القتال فيه كفر، ومن حيث بَيَّنَ أَن إخراجهم أكبر فهو أيضًا كفر، وكل ذلك من أفعال الجوارح فيبطل قول جماعة من المرجئة أن الكفر يدخل في أفعال القلوب فقط.

  ويدل قوله: «وَمَنْ يرْتَدِدْ» على إثبات الردة، وأن لها أحكامًا:

  منها: أنه تحبط الأعمال.

  ومنها: أنه يبطل ذلك في الدنيا والآخرة فيوجب ذلك قتله وإباحة دمه؛ لأن الذي عظم دمه الإيمان، فإذا بطل عادت الإباحة.

  ومتى قيل: إذا كان دار الجزاء هو الآخرة فما معنى ذكر الدنيا؟

  قلنا: من الجزاء المدح والتعظيم والتناصر في الدنيا وعصمة المال والدم والثواب في الآخرة، فبين تعالى أن جميعها تبطل بالردة.

  ويقال: هل تدل الآية على قول أصحاب الموافاة؛ لأن شرط استحقاق العقاب الموت على الردة؟

  قلنا: لا، وإنما شرط الموت لأن عنده يستقر الإحباط لجواز أن يتوب ما دام حيًّا، ولأن عقوبة الآخرة إنما تستحق إذا مات مرتدًّا.

  وتدل على بطلان قول من يزعم أنه لا يجوز أن يموت المؤمن على كفر على ما زعمه بعض المتأخرين، وعندنا يجوز تبقية من يعلم أنه يكفر، ويجوز تبقية من يعلم أنه يؤمن، ويجوز اخترامه عند أبي هاشم، وقال أبو علي: لا يجوز اخترامه، وهو قول أبي القاسم من أصلين مختلفين.