التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون 42 فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون 43 فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 44 فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين 45}

صفحة 2234 - الجزء 3

  ومتى قيل: قد قال قبل هذا: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ»، وذلك يقتضي أنهم تضرعوا، وهذه الآية تقتضي أنهم لم يتضرعوا؟

  فجوابنا: فيه قولان:

  الأول: هلا تضرعوا بالإنابة وإخلاص الطاعة، فلا يعتد بتضرعهم إذا لم يكن بهذه المنزلة.

  الثاني: أن حال أولئك في هذا بخلاف حالهم؛ لأنهم أخذوا بعذاب الاستئصال.

  «وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» لكثرة غفلتهم وكفرهم فلم تنجع فيها العظة، وقيل: الإلف والعادة «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ» أعمالهم، قيل: بالوسوسة والأهواء بالمعصية، لما في ذلك من عاجل اللذة، وقيل: بالأماني الباطلة أنه لا ثواب ولا عقاب «مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» أي عملهم وهو الكفر والمعاصي «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ» قيل: تركوا ما ذكروا به من الأوامر والنواهي، عن ابن عباس وابن جريج وأبي علي، وقيل: لما تعرضوا للنسيان «فَتَحْنَا عَلَيهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيءٍ» أي كل نعمة، و (كل شيء) يدل على النعم الكثيرة، يعني إنه تعالى امتحنهم بالشدائد والمضار لكي يتضرعوا ويتوبوا، فلما تركوا ذلك فتحنا عليهم أبواب النعم ليتذكروا بالنعم، وليتوبوا؛ لأن من تتنقل عليه الأحوال ينتبه «حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا» أُعْطُوا، يعني اشتغلوا بالتلذذ وعاجل الشهوات وظاهر الحياة الدنيا دون التفكر في أمر الآخرة «أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً» يعني فجأة لَمَّا لم يصلحوا بالحالين، وصاروا بحيث لا لطف لهم أخذناهم فجأة من حيث لا يشعرون «فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» قيل: خرجوا من الدنيا آيسين من رحمة اللَّه، وقيل: هالكين، عن السدي، وقيل: أذلة خاضعين، عن الأصم، وقيل: مخذولين، عن أبي مسلم، وقيل: خاشعين، وقيل: مكتئبين، عن مجاهد، وقيل: هو انقطاع الحجة، وقيل: هو الحيرة بما يؤول على النفس من البلية، وقيل: هو الحزن «فَقُطِعَ دَابرُ الْقَوْمِ» قيل: استؤصلوا بالعذاب، عن السدي وقطرب وابن زيد، ودابر القوم: أصل القوم، أي قطع أصلهم، وقيل: دابرهم آخرهم، تقول العرب: قطع اللَّه دابرهم، أي لا أبقى منهم أحدًا «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» قيل: على هلاكهم، وقيل: الحمد لله