التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون 148 قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 149 قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون 150}

صفحة 2458 - الجزء 4

  أي: لو شاء اللَّه ألّا نحرم شيئًا مما حرمنا مما تقدم ما حَرَّمْنا «مِنْ شَيءٍ» أي: من السائبة والوصيلة والحام، وسائر ما حكى عنهم. فيما تقدم «كَذَلِكَ» يعني كما كذبك هَؤُلَاءِ يا محمد في أنه - تعالى - لا يريد الشرك والمعاصي «كَذَلِكَ كَذَّبَ» أسلافهم أنبياءهم فيما دعوهم إليه من أنه - تعالى - لا يريد القبائح؛ إذ لو كان ما قالوه دين الأنبياء لما كان ذلك تكذيبًا بل كان تصديقًا «حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا» حتى نالهم عقابنا «قُلْ» يا محمد لهم جوابًا عما قالوا: إن الشرك بمشيئة اللَّه: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ» قيل: من حجة تؤدي إلى العلم، قيل: أَبِعِلْمٍ تقولون هذا «فَتُخْرِجُوهُ لَنَا» أي: أخرجوا ذلك العلم، أو تلك الحجة، ثم بين أنهم لا حجة لهم فقال: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» والظن ليس بطريق في أصول الدين، وفي مسألة المشيئة «وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» أي: تكذبون في هذه المقالة، ولما رد عليهم قولهم: إن الكفر بمشيئة اللَّه. بَيَّنَ الوجه فيه، وأزال شُبْهَةَ القوم: لو لم يشأ لمنع منه، فقال سبحانه: «قُلْ» يا محمد إذا عجزوا عن إقامة حجة على ما قالوا «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ» أي: الكافية التي يراد المحتج بها في ثبوتها، وقيل: البالغة: الكافية، وقيل: سميت بالغة لكثرتها، وقيل: لترادفها، وقيل: لوضوحها، وقلة الشبه فيها، وقيل: لأنها المتناهية في الصحة وإيقاع العلم بالنظر فيه، وقيل: الذي تبلغ قَطْعَ عذر المحجوجين، وتزيل كل شبهة، عن أبي علي، فبين - تعالى - أنه إنما لم يشأ الكفر ولم يُخَلِّ بينهم وبين ذلك حجة عليهم فخلاهم وما اختاروا ليؤمنوا باختيارهم؛ لتكون له الحجة عليهم، ثم بَيَّنَ أنهم ما يُحَالُ بين ما اختاروا وبينهم لعجز، فقال: «فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» أي: لألجأكم إلى الإيمان، ومنعكم من الكفر، فبين - تعالى - ما أزال كل شبهة أنه لم يشأ الكفر؛ لأنه قبيح، وإنما لم يمنع لتكون له الحجة، ولو شاء لألجأهم إلى ذلك يدل عليه أنه نفى في الآية الأولى المشيئة، وأثبتها هنا، فلا بد أن يكونا متغايرين فالأول مشيئة الاختيار، والثاني مشيئة الإلجاء، ثم بين - تعالى - أن الطريق إلى حجة مذاهبهم تنسد إذا لم يثبت ذلك بعقل، ولا سمع، فقال سبحانه: «قُلْ» يا محمد لهم «هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ» أي: