التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق 106 خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد 107 وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ 108}

صفحة 3568 - الجزء 5

  الدائم من عظم ما هم فيه، ذكره القاضي. «خَالِدينَ فِيهَا» مقيمين دائمين «مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ» يفعل ما يريد لا يمنعه مانع، وقيل: يفعل ما يريد لا تبدو له البدوات؛ لأنه عالم بالأشياء «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا» أي: يكونون في الجنة دائمين «مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» أي: غير مقطوع، عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.

  ومتى قيل: ما معنى قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} ومعنى قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وقد أجمعوا أن الثواب والعقاب دائمان؟.

  قلنا: أما الأول فقد اختلف العلماء فيه على قولين:

  الأول: المراد بالسموات والأرض هن هذه السماوات والأرض بعينها.

  والثاني: أن المراد ليس السماء والأرض بعينها، وإنما المراد التبعيد.

  فأما من قال بالأول اختلفوا، فقيل: ما دامت سماء الآخرة وأرضها، وهي لا تفنى، عن الضحاك، والأصم، وأبي علي. وقيل: هو سماء الجنة والنار وأرضها، وكل ما علاك فهو سماء، وما استقر عليه قدمك فهو أرض، وقيل: أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا، قدر مدة بقائها، عن الحسن، وقيل: ما دامت الأرض أرضًا، والسماء سماء، عن أبي علي.

  فأما من قال: هو للتبعيد. قال: للعرب ألفاظ في معنى التأبيد والتبعيد، كقوله: ما جئت البيت، وأطل الليل، وأورق الشجر، وجن ليل، وسال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما سمر سامر، وحتى يبيض القار، ويشيب الغراب، وما طرق طارق، وما ذَرَّ شَارِقٌ، ولاح كوكب ونحوها، وكل ذلك يريدون به التبعيد، لا التوقيت والشرط، فخاطبهم بالمتعارف من كلامهم، قال الشاعر:

  إذا شَاب الغُرابُ أَتَيْتُ أَهْلِي ... وَصَارَ القَارُ كَالَّلبَنِ الحَليِبِ