التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا 16 وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا 17 من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا 18 ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا 19}

صفحة 4179 - الجزء 6

  يحسن فعله لا يحسن إرادته فعند ذلك اختلفوا في معنى الآية وتقديرها على وجوه:

  أولها: إذا أردنا أن نحكم بهلاكها أن نخبر بذلك، ولا يصح الحكم إلا ونريد ذلك الحكم فتقديره إذا حكمنا بهلاك قرية أمرنا مترفيها على لسان الرسل بالطاعة، فإذا فسقوا فحق عليهم القول، أي: القول الذي أراده بإهلاكهم، ومثله: إذا أراد الحاكم الفصل بين الخصوم أمر بتقديمهم إليه، أي: إذا أراد الحكم بالفصل، وعلى هذا المراد بالإرادة حقيقة الإرادة، وما يتعلق به الإرادة محذوف وهو الحكم.

  ومتى قيل: لم جاز تقديم الإرادة؟

  قلنا: لأن الحكم إخبار عما يفعله في الثاني جزاء على فعلهم، فيكون فيه اعتبار للملائكة فيحسن، فأما الإرادة فلا فائدة في تقديمها على المراد، ولأن تقديم الإرادة على المراد بزمان كثير لا يجوز بخلاف الحكم، وهذا هو معنى قول الأصم.

  الثاني: أن المراد بالإرادة قرب الهلاك والعلم بكونه لا محالة، لا حقيقة الإرادة، وهو مجاز وتوسع، كقوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}⁣[الكهف: ٧٧] وكقولهم: إذا أراد المريض أن يموت اشتدت أمراضه، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتته الوضائع من كل جهة، وليس المراد إثبات حقيقة الإرادة، فعلى هذا إذا قرب إهلاك قرية أمرناهم بالطاعة ففسقوا، فحق عليها القول فدمرناهم، عن أبي علي.

  الثالث: أن في الآية تقديم وتأخير، تقديره: إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة ففسقوا عن أمرنا وعصونا حق عليهم القول، وهو الوعيد أردنا عند ذلك إهلاكهم، فأهلكناهم، وهذا كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}⁣[المائدة: ٦].