التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا 16 وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا 17 من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا 18 ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا 19}

صفحة 4181 - الجزء 6

  «فَحَقَّ عَلَيهَا الْقَوْلُ» أي: وجب عليها الوعيد «فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا» أي: أهلكناهم إهلاكاً.

  ثم بين ما جرى من مثل ذلك على الأمم، فقال سبحانه: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ» أي: من الأمم المكذبة، وكم هاهنا للتكثير «مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» أي: من بعد زمان نوح إلى زمانكم من القرون الماضية، وقيل: القرن مائة وعشرين سنة، عن عبد اللَّه بن أوفى، وقيل: مائة سنة، عن محمد بن القاسم، وروي مرفوعاً، وقيل: ثمانون سنة، عن الكلبي، وقيل: أربعون سنة، فيما رواه ابن سيرين عن النبي ÷. «وَكَفَى بِرَبِّكَ بذُنُوب عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا» أي: كفى به عالماً بذنوب عباده ليجازيهم بحسب أَعمالهم.

  ثم بين تعالى أنه يعطي كل أحد بحسب ما يصلحه ويدبره، فقال سبحانه: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ» أي: النعمة العاجلة، وهي الدنيا فعبر عن الاسم بالندت «عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ» من البسط والتقتير، فعلق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد، فقد يشاء العبد ما لا يشاؤه اللَّه، لكونه مفسدة فلا نعطيه «لِمَنْ نُرِيدُ» أن نفعله به، فعلق من يريد إعطاءه بإرادته لا بإرادة العبد، فبين تعالى أنه رُبَّ حريص يريد الدنيا فلا أعطي، وإن أعطي قليلاً «ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ» أي: مأوى مريد الدنيا، وعساه أن يصير إلى جهنم «يَصْلاَهَا» أي: يصير بصليها، وقيل: يحترق بنارها «مَذْمُومًا» معيباً، يعني يذمه اللَّه ويعيبه، وكذلك الملائكة والمؤمنون «مَدْحُورًا» مطروداً مبعداً من رحمة اللَّه «وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ» أي: نعيمها وثوابها «وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا» أي: عمل عمل الآخرة لأجل الثواب، وقيل: عمل لأجل الآخرة لا لرغبة ولا لرهبة، بل تقرب