التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون 164}

صفحة 683 - الجزء 1

  «وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ» يعني السفن «بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ» بركوبها والحمل عليها والتجارات والمكاسب «وَمَا أَنزَلَ اللَّه مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ» يعني المطر، واختلفوا في الماء المنزل، فقيل: إنه ينزل من السماء على الحقيقة كما أخبر به تعالى وهو الصادق في خبره، وإذا كان هناك سحاب لم يمتنع أن يكون نازلاً من السماء إليه، ثم يسقط بقدر الحاجة، هذا قول جماعة من أصحابنا؛ إذ لا مانع من حمل الكلام على حقيقته، وقال بعضهم: إنه ينزل من السحاب، ومعنى «مِنَ السَّمَاءِ» أي من جهة السماء ويخلقه اللَّه تعالى في السحاب حالاً بعد حال، وهذا جائز، وإن كان الأول أليق بالظاهر، وقال بعضهم: إنه تعالى بقدرته يحمل السحاب مياه البحر مع ملوحته، ثم ينزله من السحاب بقدر الحاجة عذبًا فراتًا، وهذا أيضًا لا يبعد، فأما من يقول: إن السحاب بخار يرتفع من البحر عند تأثير الشمس فينسحب في الهواء، ويعذب مالحه، ثم يعود مطرًا على ما يحكى عن بعضهم، فنحن ننكر ذلك، والذي دعاهم إلى ذلك نفيهم الصانع المدبر وإضافتهم الحوادث إلى الطباع وجميع ذلك بينا بطلانها «فَأَحْيَا به الأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا» يعني أحيا الأرض بالنبات بالمطر بعد يبوستها وجدوبتها، وقيل: أحيا به الأرض يعني أهل الأرض بإخراج الأقوات وغيرها مما تحيا به النفوس «وَبَثَّ فِيهَا» يعني فرق في الأرض «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» من كل حيوان يدب، وأراد أنه خلقها في مواضعِ متفرقة، وقيل: فرقها كي لا تزدحموا «وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ» تقليبها شمالاً وجنوبًا وقبولاَ ودبورًا، وقيل: مجيؤها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب، عن قتادة، «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ» أي المذلل يصرفها كما يشاء «بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ» حجج ودلالات فبين أنها أدلة ولم يذكر على ماذا، فحذف لدلالة الكلام عليه، وقد بين العلماء تفصيل ما يدل عليه ما بينها في الأحكام «لِقَوْم يَعْقِلُون» قيل: هو عام في العقلاء من استدل ومن لا يستدل؛ لأنه يمكنه الاستدلال، وقيل: هو خاص فيمن اسنتدل وعلم؛ لأنهم لما أهملوا أنفسهم صاروا كأنه لا عقل لهم حيث لم ينتفعوا بتلك الدلالات كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وإنما أضاف الدلالة إلى من يعقل لوجهين:

  أحدهما: أنها نصبت لهم، ولأنها لا تصح أن يستدل بها غيرهم.

  ومتى [قيل]: قوله: «آيات»، يرجع إلى الجميع أو إلى كل واحدة؟

  قلنا: يحتمل الوجهين، أي الكل آيات، ويحتمل كل واحد مما ذكر فيه آيات.