التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين 21 وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل 22 قال فرعون وما رب العالمين 23 قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين 24 قال لمن حوله ألا تستمعون 25 قال ربكم ورب آبائكم الأولين 26 قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون 27 قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون 28 قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين 29 قال أولو جئتك بشيء مبين 30}

صفحة 5348 - الجزء 7

  وثانيها: أنه إنكار للنعمة.

  وثالثها: أنه سؤال نعمة.

  فمن قال بالأول اختلفوا، فقيل: معناه بلى، تلك نعمة منك عليّ إذ ربيتني، ولم تقتلني كما قتلت غلمان بني إسرائيل ولم تستعبدني كما استعبدتهم، عن الفراء وجماعة. وقيل: معناه بل هي نعمة لك عَلَيَّ، غير أن اتخاذك بني إسرائيل عبيداً وما فعلت بهم أحبط ذلك، وقيل: معناه تمن عليّ بهذه النعم أنك ربيتني، وتنسى إساءتك إلى قومي في جنايتك عليهم.

  ومن قال بالثاني اختلفوا، فقيل: تقديره: أوتلك نعمة؟ فهو استفهام والمراد الإنكار، فحذف حرف الاستفهام، وذلك شائع كقوله تعالى: {فَهُمُ الخَالِدُونَ}⁣[الأنبياء: ٣٤] وكقول الشاعر:

  وَقَوْلَهَا وَالرِّكَابُ وَاقِفَةٌ ... تَرَكْتَنِي هَكَذَا وَتَنْطَلِقُ وهو قول مجاهد، واختيار أبي علي. ثم اختلف هَؤُلَاءِ في معنى الآية، فقيل: بأن ظلمتهم ولم تظلمني تَعُدُّ ذلك نعمة عليّ؟ وقيل: لا منَّة لك؛ لأن الذي تولى تربيتي أمي وغيرها من بني إسرائيل، عن أبي علي. وقيل: أخذت مال بني إسرائيل واتخذتهم عبيداً، وأنفقت عليّ من مالهم فلا منّة لك عليّ، عن الحسن. وقيل: لولا قتلك بني إسرائيل واستعبادك لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك على؟. وقيل: كيف تكون تربيتك نعمة مع ما فعلت بقومي؟ ومن أهين قومه ذل، فلا منَّة لك عليَّ، وقيل: إنك عَبَّدْتَ بني إسرائيل وقتلت أبناءهم فلا منَّة عليَّ، وطلبتني لتقتلني فرباني اللَّه في حجرك غماً لك، ولو علمتني لقتلتني فضلاً عن أن تربيني فلله المنَّة دونك، والأولى أن ذلك إنكار لأن كلام موسى كلام راد لا كلام معترف.

  وأما الثالثة: فقوله: «أَرْسِلْ» فإنه سلك طريقة أخرى فذكر أن موسى قال: أرسل معي بني إسرائيل، وتلك نعمة لك عندي تمنّ بها عليَّ؛ لأنك قد استعبدتهم، فإذا أطلقتهم فقد اتخذت عندي يداً، وكان لموسى مع تبليغه الرسالة حرص في أمر بني إسرائيل وتخليصهم؛ لأنهم قومه وشيعته «عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» أي: اتخذتهم عبيداً