التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين 14 ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين 15 قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم 16 قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين 17 فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين 18 فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين 19 وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين 20}

صفحة 5481 - الجزء 8

  سبيله، فقال: إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فتنازعا «فَوَكَزَهُ مُوسَى» أي: دفع في صدره بجميع كفه، وقيل: الوكز: الدفع بأطراف الأصابع، عن الفراء، وأبي عبيدة. «فَقَضَى عَلَيهِ» أي: قتله وفرغ من أمره، ويقال لكل شيء فرغت منه على التمام: قد قضيته وقضيت عليه، واختلفوا في هذا القتل، فقيل: إن موسى لم يتعمد القتل، ولكن قصد تخليص المؤمن من يد الكافر المتعدي، وبدفعه صار مقتولاً خطأ.

  ومتى قيل: إذا كان هذا قصده - وهو حسن - فلم صار مذنبًا؟

  قلنا: الخطأ قد يقع في الأسباب، فقد كان يمكنه ألّا يعجل، فيتمكن من تخليصه بالرفق والقول الجميل، ويحتمل أنه لو ضربه في غير مقتل لكان يعيش، فكان يحسن عليه التحرز من المقتل، فلم يفعل وضرب في المقتل، وقال بعضهم: لم يكن ذنبًا، وإنما ذكر ما بعده على سبيل الانقطاع على ما نبينه. وقيل: كان في دار الحرب ولم يعلم الحكم فيه، وإباحة القتل يعلم سمعًا. وقيل: كان مباح الدم إلا أنه كان نهي عن قتله؛ لما يخاف على نفسه من القصاص. وقيل: كان ذنبًا إلا أنه كان صغيرًا، عن أبي علي.

  «قَال هَذَا مِنْ عَمَلِ الشيطَانِ» أي: من إغوائه ووسوسته، قيل: يعني وزري في الإيقاع به على الدفع وإن كنت لم أتعمد، فأضافه إلى الشيطان؛ لأنه دعا إليه. وقيل: الخصومة التي وقع القتل بسببها حصلت بوسوسة الشيطان «إِنَّهُ عَدُوٌّ» لبني آدم «مُضِلٌّ» يضل الناس بوسوسته عن الحق «مُبِينٌ» ظاهر العداوة والإضلال «قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» قيل: حصل منه صغيرة، ثم اختلفوا، فقال أبو علي: ظلمه لنفسه أنه يلزمه التوبة كلما تذكره. وقال أبو هاشم: لأنه نقص من ثوابه بقدر عقاب صغيرته. وقيل: أراد ظلمت نفسي في هذا القتل؛ فإنهم لو علموا قتلوني. وقيل: قاله على سبيل الانقطاع «فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» من ضروب النعم دينًا ودنيا «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرً» معينًا «لِلْمُجْرِمِينَ»، فضمن ألّا يدع معاونة أهل الحق ولا التعصب في الدين، وقيل: بما أنعمت عليَّ بالمغفرة، وقيل: بالهداية، وقيل: بالنجاة من فرعون، وقيل: هو عام في جميع النعم، وهو أوجه؛ لأنه يدخل فيه جميع ما ذكر. وقيل: فلن أعين بعدها على خطيئة، عن قتادة. وقيل: لم يستثن،