التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون 51 فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين 52 وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون 53 الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير 54 ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون 55}

صفحة 5637 - الجزء 8

  داموا على كفرهم ولم يرضوا بقضاء الله فيه كما لم يشكروا نعمه، قيل: من جهل صانعه ومدبره ولم يعلم أنه حكيم لا يفعل إلا الأصلح، فيجب الشكر عند النعمة والصبر عند الشدة.

  ثم ضرب لهم مثلاً، فقال سبحانه: «فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى» فيه تسلية للنبي ÷ وتمهيد لعذره، يعني: أنك كما تعجز عن إسماع الموتى تعجز عن إسماع هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يعرضون عن الاستماع؛ لأنهم بمنزلة الموتى «وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ» أي: لا يمكنك إسماع الصم كذلك هَؤُلَاءِ؛ لأنهم بمنزلة الصم «إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» عن الحق غير طالبين له، يعني إذا دُعُوا إلى الحق أعرضوا.

  ومتى قيل: أليس كان النبي ÷ يسمعهم؟

  قلنا: بلى، إلا أنهم لم يقبلوا ولم ينتفعوا به، فهم بمنزلة الصم والموتى.

  «وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ» يعني: لا يبصر العمي حتى يهتدوا كذلك هَؤُلَاءِ وإن كان لهم بَصًرٌ «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا» يعني: ينتفع بإبلاغك من يسمع ويتدبر ولم يعاند ولم يتصامم «فهُمْ مُسْلِمُونَ» أي: منقادون لله ويتدبرون ويعلمون، عن أبي علي. وقيل: ينقادرن للأدلة.

  ثم عاد إلى ذكر الأدلة، فقال سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» أي: أوجدكم من نطفة، وقيل: حال الصغر «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» أي: شبابًا؛ لأن القوة تتم في حال الشباب «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً» وهو حال الكبر والهرم «يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ» بأحوالهم «الْقَدِيرُ»: القادر على تصريفهم كيف شاء، وينقلهم من حال إلى حال.

  ثم بين حال بعثهم، فقال سبحانه: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» أي: يقيم الله الساعة وهي القيامة «يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ» أي: يحلفون إظهارًا للذلة والصغر «مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ» قيل: في القبور، عن الكلبي، ومقاتل. وقال أبو علي: ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر، وقيل: في الدنيا.