التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا 21 ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما 22 من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا 23 ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما 24 ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا 25}

صفحة 5721 - الجزء 8

  قلنا: لم يتمكن من الوفاء بالعهد، فهو ينتظر التمكن، وكلاهما مدح؛ ولذلك مدحهم بقوله: «وَمَا بَدَّلُوا [تَبْدِيلاً]» يعني: في عهدهم، وقيل: هو يرجع إلى جميعهم أي: استمروا على الوفاء ولم يتغيروا «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ» جعل صدقهم علة في استحقاق الثواب.

  ومتى قيل: لم كان التصديق من بعضهم؟

  فجوابنا: من قضى نحبه صَدَقَ؛ لتمسكه بالعهد لا لغرض سوى طلب مرضاة الله، فاستحقوا الثواب، ومن عزم على الوفاء استحق الثواب.

  ومتى قيل: لم حذف ذكر الجزاء؟

  قلنا: لأنه معلوم وهو الدرجة العظيمة والمنزلة في الجنة. ولما قوبل بقوله: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ» إن شاء، وقيل: أراد أنه قادر على تعذيبهم إن شاء، وألا يعذبهم إن شاء، وقيل: يعذبهم إن شاء بعذاب عاجل أو يتوبوا.

  ومتى قيل: هل يقع تخيير في تعذيب المنافقين؟

  قلنا: منهم من يقول تعذيبهم واجب ولا يجوز العفو عقلاً، عن بشر بن المعتمر، وأبي القاسم وأصحابهما. وقيل: يجوز العفو عقلاً، وورد السمع بأنه يعذبهم ولا يعفو، فيجوز تعليقه بالمشيئة.

  ومعنى الكلام: ويعذبهم إلا من يتوب قبل موته فإن توبته مقبولة، وقيل: «يَتُوبَ عَلَيهِمْ». يرجع من ذمه إلى مدحه ويحبهم له بالثواب.

  ومتى قيل: أليس الْمُجْبِرَة تقول: معناه ليعذب المنافقين إن شاء بألا يخلق فيهم الإيمان والتوبة، أو يتوب بأن يخلق فيهم التوبة؟

  فجوابنا: أن هذا غير صحيح لفظًا ومعنى، أما اللفظ: فليس في الآية إلا أنه يريد أن يعذبهم أو يتوب عليهم، وليس من الخلق فيهم شيء. وأما المعنى: فبنوا على قولهم في خلق الأفعال، ولو كان كلا الأمرين من خَلْقِهِ لما حسن الأمر والنهي والمدح والذم، فأما التوفيق واللطف فيفعله تعالى بكل مكلف إلا من يعلم أنه لا لطف له.