التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها 69 ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا 70 يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما 71 إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا 72 ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما 73}

صفحة 5774 - الجزء 8

  عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ» أي: العبادات والتكاليف لما في أدائها من الثواب وفي تضييعها من العقاب «عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» أي: أهل السماوات والأرض» وَالْجبَالِ» كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}⁣[يوسف: ٨٢] أي: أهل القرية، فأهل السماء: الملائكة، وأهل الأرض والجبال: الملائكة والإنس والجن «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا» أي: امتنعوا عن أن يخونوا فيها، والمراد: يحملن تضييع الأمانة «وَأَشْفَقْنَ [مِنْهَا]» من ذلك «وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ» بالتضييع فتركها وخانها، عن أبي علي. وقال الأزهري: يقال: حمل الأمانة أي: خانها، وحَمْلُها: خيانتها، وكل من أثم في شيء فقد حمل الإثم فيه، وقيل: حملها أي: حمل المأثم فيها، كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}⁣[العنكبوت: ١٣] أي: خطاياهم، وقيل: معنى (عرضنا): قابلنا ووازنا، فإن عرض الشيء على الشيء ومعارضته سواء، والمعارضة والموازنة والمقابلة سواء، والأمانة: جميع ما عهد الله إلى عباده من أمره ونهيه، وما بعث به الرسل وأنزل فيه الكتب وأخذ عليه الميثاق، فأخبر أن هذه الأمانة مع جلالة مرتبتها وعظم شأنها إذا قيست بالسماوات والأرض والجبال ووزنت بها وعرضت عليها كانت هذه الأمانة أثقل وأرجح، ومعنى «فَأَبَيْنَ» ضَعُفْنَ، يقال: أبى أن يحمل أي: ضعف عن حمله «وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا»؛ لأن الشفقة ضعف، ولذلك يعبر به عن الخوف، فهذه الأمانة التي من صفتها أنها أعظم من السماوات والأرض تقلدها الإنسان ثم لم يحفظها؟ بل خان فيها لجهله بموقع الثواب والعقاب، ومن عادته الظلم على نفسه، عن أبي مسلم. وقيل: هذا على التقدير والتمثيل أي: لو كانت السماوات والأرض والجبال مع عظمها حية قادرة عالمة، ثم عرضت عليها هذه الأمانة بما فيها من الوعد والوعيد عَرْضَ تخيير خافت حملها؛ لما فيه من الوعيد، وحملها الإنسان ولم يَخَفِ الوعيد لجهله وظلمه، ونظيره: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}⁣[الحشر: ٢١] وأخرجه مخرج الواقع؛ لأنه أبلغ في التقرير، وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس أنها عرضت على السماوات والأرض فأبت وأشفقت من حملها، فأما العرض على السماوات والأرض فلا يصح؛ لأنها جماد، وقيل: إنه تعظيم الأمانة لا خطاب للجماد كقولهم: سألت الرَّبْعَ، وخاطبت الديار، وقالت الأطلال، ويقال: أتى فلان بكذب لا تحمله الجبال، فأما الحمل: فلا يصح أن يقال: إنه القبول؛ لأن القبول واجب، ومَنْ لا