التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ولقد آتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد 10 أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير 11 ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير 12 يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور 13 فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين 14}

صفحة 5790 - الجزء 8

  الصالحات، وهي الطاعات شكرًا على عظيم نعمه «إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» فأجازيكم به «وَلِسُلَيمَانَ الرِّيحَ» أي: وسخرنا لسليمان الريح «غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ» أي: سيرها في غدوها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر للناس، ومسيرها في انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر، فكان مسيرها في يوم واحد مسيرة شهرين للناس، عن قتادة. وقيل: كانت تغدو فتقيل بإصْطَخْرَ، وتروح منها فتكون بكَابُلَ، عن الحسن. قال الحسن: لما جرى حديث الصافنات الجياد أعطاه الله الريح خيرًا منها، وقيل: كان له مركب من خشب فيه بيوت يركبها، ومعه جنوده، فيسيرها الريح الرخاء، فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم، ومعه الجيوش، عن ابن زيد. وقيل: كان يحمله الريح ويظله الطير، فيغزو الغزو، وروي أنه غزا من العراق فقالَ بمرو، وصلى العصر بمدينة بلخ، ثم سار إلى بلاد الترك، وجاوزهم إلى الصين، ثم إلى أرض القدهان، ثم رجع إلى فارس إلى طريق كرمان، وعاد إلى الشام، وبها كان مسكنه، فكان كل يوم يسير سير شهرين، وروي أنه دَفَنَ بخراسان سيوفًا فلقيها واستخرجها مجاشع بن مسعود في زمن عمر، عن الحسن. «وَأَسَلْنَا» أي: أذبنا حتى سالَ «لَهُ» لسليمان «عَينَ الْقِطْرِ» قيل: عين النحاس، فسالت، صيره الله مائعًا ينبع من عين تسيل، والقِطْر: النحاس، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: عين الحديد، وقيل: عين الرصاص، حكى الوجهين أبو علي. وأصل الباب من القطر وهو قطر الماء، فيحتمل كل ما يقطر، وأكثر المفسرين وأهل اللغة أنه النُّحاس، وقيل: كان ذلك باليمن سالتْ ثلاثة أيام. «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» أي: ومن الجن من سخرنا حتى عملوا له بأمر الله، قيل: كان التسخير بأمر الله والنهي والإذن هو الأمر، وقيل: بالقهر.

  ومتى قيل: هم لطاف ضعاف، فكيف فعلوا تلك الأفاعيل العظيمة؟

  قلنا: كثف أجسامهم وأعطاهم القدرة معجزة له، وقيل: زاد في قُدَرِهم مع لطافة أجسامهم؛ إلا أن هذا إنما يصح على مذهب من يقول بزيادة القدرة، ولا تحتاج إلى زيادة البنية.