التهذيب في التفسير (تفسير الحاكم)،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

قوله تعالى: {ولقد آتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد 10 أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير 11 ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير 12 يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور 13 فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين 14}

صفحة 5791 - الجزء 8

  ومتى قيل: أولئك بقوا أم تفانوا وماتوا؟

  قلنا: فيه خلاف، قيل: ردهم إلى بنيتهم الأولى وبقاهم، وقيل: بل أماتهم؛ لأن في ردهم مفسدة لغيرهم من الجن، حيث توهموا أنهم بسحرهم يغيرون صورهم كما يعتقده جهال الحشو حتى قالوا: الشيطان صور نفسه بصورة سليمان، وقعد على كرسيه، وأخذ ملكه، ووطئ نساءه.

  «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا» أي: يعدل عما أمرناه في طاعة سليمان - وكانوا مكلفين - إلى العصيان «نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ» قيل: عذاب النار في الآخرة، عن أكثر المفسرين. وقيل: كان كل من عصى منهم سليمان تنزل من السماء نارًا فتحرقه، فالمراد به نار الدنيا، وقيل: وَكَّلَ بهم ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته، وهذا كَرَمْيِهِمْ بالشهب عند استراق السمع «يَعْمَلُونَ لَهُ» أي: لسليمان «مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ» قيل: البيوت الشريفة، وقيل: قصور ومساجد يعبد فيها، عن قتادة، وأبي علي. قال: وكان مما عملوه بيت المقدس، وذلك أن الله سلط على بني إسرائيل الطاعون، فهلك خلق كثير في يوم واحد، فارتفع داود صعيدًا وخر ساجدًا، فشفعه الله فيهم، ورفع عنهم ذلك، وأمرهم أن يبنوا في ذلك الموضع مسجدًا، فأخذوا في بنائه وأساسه، فكان داود وصلحاء بني إسرائيل ينقلون الحجارة حتى بنوا قامة، ولداود يومئذ تسع وعشرون سنة، فأوحى الله إليه أن تمام بنائه على يدي ابنه سليمان، وعاش داود مائة وأربعين سنة، وتوفي، واستخلف سليمان، وأعطاه الله النبوة، فأحب إتمام بيت المقدس، فجمع الجن، وقسم عليهم الأعمال حتى بنوا المدينة، ثم بنى المسجد وجعل يوم فراغه يوم عيد، وكان للهرة موضع، فبقي إلى أن خربه [بختنصر] لما غزا بني إسرائيل «وَتَمَاثِيلَ» قيل: [صورٌ] من نحاس وصفر وزجاج ورخام، ثم اختلفوا، فحمله بعضهم على صور الحيوانات، وبعضهم على صور الشجر وغيره دون الحيوانات، وكلاهما جائز؛ لأن تحريمه يُعْلَمُ شرعًا، وقيل: كانوا يعملون صور الأنبياء والملائكة في المساجد، وكانوا متعبدين به، عن ابن عباس.

  ومتى قيل: أليس يكره ذلك؟

  قلنا: عقلاً لا، والشرائع تختلف في ذلك، وكان عيسى يصور كهيئة الطير،